في واقعة شبيهة بحرق محمد البوعزيزي لنفسه شتاء 2010 بعد منعه من الانتصاب بعربته لبيع الخضار وصفع عون شرطة بلدية له، وقعت حادثة شبيهة أيام عيد الفطر المبارك صيف 2016 لأستاذ جامعي متعاقد عزل منذ أشهر بعد سنوات من التعاقد لانتهاء عقد العمل.
وهو أب لثلاثة أطفال اتجه إلى التجارة، حيث اقتنى مجموعة من ألعاب الأطفال وعلب دخان لبيعها في أيام عيد الفطر مع إدراكه لخطورة التجارة الموازية، غير أن أعوان البوليس قد حجزوا بضاعته ودراجته وأهانوه وذلك يوم الثلاثاء 5 يوليو 2016، فأحس بالقهر والمهانة ما اضطره إلى حرق نفسه، فتوفي بعد الحادثة بيوم.
غضب الجامعيين
أثارت الحادثة غضب الأساتذة الجامعيين الباحثين التونسيين الذين يشاركونه الوضع نفسه، خاصة أن الفقيد عماد الغانمي شهيد الكرامة والعمل قد سبق له أن تزعّم تحركات احتجاجية من أجل العمل بالجامعة، وهدّد بحرق نفسه احتجاجًا على انسداد أفق العيش الشريف بعد إنهاء وزارة التعليم العالي بتونس العمل بنظام التعاقد في الجامعة، وهو ما يشمل أكثر من ألفين وخمسمائة جامعي.
وفي أول رد فعل على الحادثة أصدرت جامعة التعليم العالي واتحاد الأساتذة الجامعيين الباحثين التونسيين بيانين يحملان وزارة التعليم العالي والوزير شهاب بودن والحكومة مسؤولية الوضع المأساوي الذي يمر به الأساتذة المتعاقدون بالجامعة، وهم يمثلون نموذجًا للجامعيين الذين ظلت شهاداتهم معلقة في انتظار التوظيف أو استكمال مناقشة الأطاريح أو النجاح في مناظرات الانتداب التي جمدتها الوزارة حاليًا لمدة سنتين لظروف مالية قاهرة.
هل هي ثورة الجامعيين؟
تمثل هذه الحادثة شرارة قادحة لدفع غضب الأساتذة الجامعيين الباحثين بالجامعة التونسية إلى أقصاه، بقدر ما تثير حالة الإحباط واليأس في نفوس أصحاب الشهادات العلمية الذين ضحوا بحياتهم من أجل النجاح والتفوق ثم يواجهون اليوم حالة من التهميش والإقصاء واللامبالاة نتيجة سياسات حكومية اعتبروها فاشلة، وخيارات تنموية لم تعد قادرة على استيعابهم.
إنّ فقدان الثقة في المستقبل وتراجع الأمل في إنجاز وعود الثورة التونسية (حرية – كرامة وطنية) وأهدافها (التشغيل استحقاق) يفتح أفق المشهد السياسي الجامد حاليًا إلى المجهول، حيث نجحت الثورة المضادة في انتزاع مكاسب هامة لصالحها في حين ظل من حلموا بالكرامة والعيش المحترم في وضع هش.
ولعلّه من الخطورة بمكان أن يفقد المثقف والجامعي في تونس بوصلة الريادة والأمل والثقة في المستقبل، لأن حالته النفسية إحباطًا ويأسًا ستنعكس مباشرة على أجيال المتعلمين المباشرين لدراستهم وهم على مرمى حلم من هؤلاء الجامعيين.
والأخطر من ذلك انشغال الطبقة السياسية التونسية حاليًا عن هذه الواقعة بتشكيل حكومة الوحدة الوطنية وسعي السياسيين والإعلاميين إلى تهدئة الأجواء الاجتماعية الهشة على كل المستويات والمهددة بالانفجار في أي لحظة، بسبب غلاء الأسعار وتفشي البطالة وتراجع الاستثمار وغياب الحلول العملية لتجاوز الأزمة الاقتصادية حيث تراجع الدينار وتفاقمت المديونية.
ما الحلول؟
لا تملك الحكومة الراهنة ولا النخبة السياسية حلولاً عاجلة ولا تصورًا استشرافيًا للخروج من هذا المأزق متعدد الأبعاد سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، لذلك يدفع الجميع بالأزمة إلى الأمام دون قدرة على تفكيكها وتجاوزها، ولا يمكن في المقابل لفئة اجتماعية هشة أن تتحمل انعكاسات هذه الأزمة بمفردها.
فتجميد الانتدابات الجامعية والبعثات الفنية إلى الخارج خلال سنتين سيساهم في تأزيم الوضع الاجتماعي ويدفع بالجامعيين إلى مزيد من الإحباط وربما اللجوء إلى الحلول اليائسة، ورغم أن التوقيت الحالي غير مناسب لتحرك ميداني في حجم الحدث بحكم العطلة الصيفية والتوقيت الإداري وحرارة الطقس وتكاليف التنقل والتحرك لخوض نضالات حاشدة، فإنّ بوادر التحشيد والوعيد التي شرع فيها الباحثون الجامعيون التونسيون على المستوى الافتراضي منذرة بالخطر، رغم محاصرة الإعلام الرسمي لبياناتهم وتحركاتهم ومطالبهم المشروعة.
فهل يتحول مسار الثورة نحو المثقفين والجامعيين لتعديل المسار الثوري والتنبيه إلى الانحرافات الكبرى للثورة التونسية التي اخترقتها الثورة المضادة وسرقت منجزاتها وأهدافها؟