لا يزال كثير من العراقيين والسياسيين والإعلاميين والأحزاب والقِوى السياسية العراقية ينظرون إلى بلدهم بعقلية ما قبل 2003م وإن ادعوا عكس ذلك، ولا يزالون يحتفظون في الذاكرة بالعراق القوي والشعب الواحد والحدود المحترمة والسلطة المركزية، وينتهجون سياسة ويقدمون آراء بعقلية صفرية وإن أنكروا ذلك، إلا أن الحقيقة المرة التي يجب علينا تشخيص المرض من خلالها لنصل إلى حلول تُلملم ما تبقى من العراق بعيدًا عن العاطفة وتحاول إعادته كما كان، هي أن العراق لم يَعد لديه سيادة ولا سلطة مركزية ولا حدود ولا حتى شعب سياسي واحد بل شعوب يتصارع من يمثلونهم على سلطة لامركزية في المدن العراقية التي تنقسم ديمغرافيًا وسياسيًا واجتماعيًا بين قوى وأحزاب لها مصالح فرعية غير وطنية.
إن المنظور السياسي الواقعي للأمور يشير إلى أن العراق لم يَعد دولة وعندما ننظر إلى العراق علينا أن ننظر إليه على أنه منطقة واحدة خالية من الحدود وأن هناك كُتل بشرية موزعة في الوسط والشمال والجنوب وتعاني ويلات الفوضى، وأن السلطة المركزية لم تعد قادرة على الإيفاء بالتزاماتها تجاه من يقع تحت سلطتها من واجبات ولا المواطنون قادرون على أخذ حقوقهم ولا القيام بواجباتهم وفي مقدمتها الأمن والأمان بسبب تداخل الأزمات وتعقيداتها، إذ يصعب أحيانًا التمييز بين ما هو طائفي وبين ما هو إرهاب وبين ما هو خرق أمني وبين ما هو نهج في استهداف الخصوم من المتصارعين على السلطة وبين ما هو سعي إقليمي لتدمير العراق والذي تقوده إيران في المنطقة والعراق جزء منه.
كل ما يجري في العراق ليس استثناءً، فهناك الكثير من الدول مرت في تاريخها السياسي بما مر به العراق وتوصلت إلى حلول لأزماتها ومعالجات جذرية وبآليات سليمة غير عنيفة خاصة المجتمعات المفككة طائفيًا وإثنيًا ولغويًا والدول غير القادرة على الوقوف مرة أخرى بسبب الصراعات الداخلية والتدخلات الإقليمية والضعف العام الذي أنهكها وقسم مجتمعاتها ديمغرافيًا وسياسيًا وحتى جغرافيًا.
فبعد الحرب العالمية الثانية عندما خرجت أوروبا منهكة ومتصدعة من الحرب اجتماعيًا وسياسيًا واقتصاديًا، دفعها ذلك إلى التفكير بنشر بذورالوحدة الأوروبية، فمن يفكر بالوحدة هو الضعيف وليس القوي لمواجهة أزماته، وكذلك الولايات المتحدة توحدت بسبب ضعفها لكي تقوى وهو اعتراف ضمني من قبلهم بأنهم منقسمون اجتماعيًا وسياسيًا وضُعفاء وتشخيص سليم للمرض بعيدًا عن الكلام الافتراضي كما يحدث في العراق بأننا شعب واحد وغير مُنقسم، بالرغم من وجود التعايش والتلاقي في العلاقات غير السياسية والتي لا تُشكل ثقلاً ولا تأثيرًا على من يمثلون هذا الطرف أو ذاك.
إن هذه الصيغة التي وحدتهم وجمعت تناقضات المصالح هي صيغة الفدرالية، فكلمة فدرالية يعود أصلها إلى “federation” أوfederalism” ” أي الوحدة، فهي صيغة تُعيد وحدة العراق وتنقذه من الانقسام وربما التقسيم لاحقًا، إذا أصر العراقيون أو المنتفعون من حالة الفوضى بالقول بأننا بلد واحد وغير منقسم، فإن لم نُشخص المرض بشجاعة، سنستمر بالموت كل يوم، فالفدرالية ديمقراطية بالضرورة وتكرس حالة المشاركة بدون إقصاء لأي طرف وهو ما تؤيده القوى الدولية التي وضعت لنفسها أهدافًا في سياساتها الخارجية يتعلق معضمها بنشر الديمقراطية وحقوق الأقليات وحقوق الإنسان، وبالرغم من علامات الاستفهام التي تدور حولها إلا أنها مؤيدة دوليًا على الأقل وتُبعد خطر التقسيم وتنقله إلى فلسفة التقاسم للثروة والسلطة والنفوذ بين هذه القوى التي لا تجمع تناقضاتها غير صيغة الفدرالية.
أخيرًا إن الديمقراطية تنجح في العادة في الدول التي تحتوي مجتمعاتها على تعددية سياسية، والفدرالية تنجح في الدول التي تحتوي مجتمعاتها على تعددية طائفية إثنية ومصبوغة بصبغة سياسية وبمصالح متناقضة وهي صيغة ديمقراطية لا بديل عنها في العراق سوى مزيد من الفوضى والدمار وتأجيل مرحلة الانتقال من الصراع من أجل الاستقرار إلى استمرار الصراع من أجل الصراع والفوضى؟