أغلب برلمانات ما بعد الاحتلال كانت فيها الكثير من العبر، أكثر من ثلاثة أرباع الأعضاء فيها، هم أشخاص ليس لهم علاقة بالسياسة لا من قريب ولا من بعيد، باعترافهم طبعًا، ممارسة العمل الدعوي أو الخيري أو الإغاثي، هذه ليست سياسة، وهذا ليس انتقاصًا من العمل الدعوي أو الإغاثي.
أغلب برلمانيي ما بعد الاحتلال كان يظهر صوتهم عندما يتعلق الأمر بمحافظاتهم فقط، أو حصص المكاسب والمغانم من المقاولات التي تخص المحافظات، ليس بسبب طائفيتهم فحسب، بل لجهلهم بما يجري خارج محافظاتهم، ولهذا من الأولى أن نسميهم نواب محافظات العراق، وليس نواب برلمان العراق.
أما السياسة العامة للبلد، سواء أكانت الخارجية أو الداخلية مثل الأمن والصحة والزراعة والصناعة أو غيرها، كانت تدار من قبل قادة التحالف الوطني في البرلمان، أو قادة المجاميع المسلحة التابعة للتحالف نفسه، تدار على شكل صفقات، هذا لك وهذا لي.
لكن مع وجود كل هذه الكتل والتحالفات، كان الذي يجعل الأجواء داخل برلمانات ما بعد الاحتلال تبدو خالية من الهرج، وتظهر وكأنها “منظمة”، إنه كان المسلَّم به أو المتفق عليه، أن كل هذه الصفقات كانت تعقد خارج البرلمان بالكامل، وأن البرلمان مخصص لإظهار سيستم الدولة البرلمانية.
ما حدث في الأزمة الأخيرة للبرلمان العراقي، أن نواب المحافظات ظهروا فجأة على الساحة، والذين هم على علاتهم، وبدون أدنى شك أفضل برلمانيي ما بعد 2003، يتجلى ذلك في رغبتهم في التأثير، أو الطموح للتأثير، وتراجع عوامل الخوف والردع الدولتية، وأساليب مناورة الحكومة، والأهم هو تثبيت نسخة جديدة من أبلكيشن المحاصصة الطائفية وتوزيع الصفقات.
ما حدث بالضبط بعد أزمة البرلمان الأخيرة، هو أن المحاصصة الطائفية خرجت من تحت عباءة قادة التحالف الوطني الشيعي الحاكم، خرجت من خارج سلطة البرلمان إلى خارج سلطة التحالف الحاكم، وهذا ما أربك حسابات قادة هذا التحالف، لأن هذا يعني تقليص هامش المناورة من أجل إبرام الصفقات خارج تأثير السلطة التشريعية.
حدث هذا رغمًا عن إرادة قادة التحالف الشيعي، مثلما حدث ذلك رغمًا عن إرداة السلطة التشريعية نفسها، يتجلى ذلك بدور أحمد الجلبي، ومن ثم وفاته، وانتهاء دور صفقاته وحواراته الجانبية، وكيف تم توظيف المال والطائفة في السياسة، ودور التحالف الشيعي في ملفات الفساد الكبيرة.
كل هذا يحدث فيما النخبة الثقافية مشغولة بالمباهلة الطائفية، وبالمزايدة على تجديد الخطاب الطائفي في وسائل الإعلام، وابتكار طرق جديدة للدعشنة، فلا غرابة من بعد ذلك حين نرى تراجع المطالبة بتفعيل دور البرلمان، في دولة يعتبر صيرورة نظامها الجديد قائم على البرلمان نفسه.