حالة من فقدان التوازن يحياها الشارع البريطاني منذ الخروج الكبير من بوتقة الاتحاد الأوروبي، وما تلاه من قرارات وتصريحات لبعض قادة أوروبا، في بعضها أشبه بـ “العقوبات”، وهو ما أثار ضجة كبيرة وجدل داخل المطبخ السياسي بلندن، دفع رئيس الوزراء ديفيد كاميرون إلى الإعلان عن الاستقالة بصورة رسمية، واختيار وجه جديد لقيادة الدولة العظمى في هذه المرحلة الحرجة من تاريخها.
“تريزا ماي” وزيرة الداخلية ورئيسة حزب المحافظين الجديدة والمرشحة لخلافة كاميرون في رئاسة وزراء بريطانيا، هذا الاسم الذي فرض نفسه على الساحة السياسية مؤخرًا لاسيما بعد تراجع وزيرة الطاقة أندريا ليدسوم عن خوض المعركة، لتصبح المرأة الثانية المرشحة لقيادة الحكومة في تاريخ بريطانيا بعد مارجريت تاتشر، فمن هي رئيسة الوزراء الجديدة؟ وهل بالفعل قادرة على قيادة بلادها لعبور هذا المأزق؟
ماي: المرأة الحديدية الجديدة
ولدت تريزا ماري ماي في الأول من أكتوبر عام 1956 بولاية ايستبورن، وحصلت على الشهادة الجامعية في الجغرافيا من جامعة أكسفورد 1977، كما تدرجت في بعض الوظائف حيث عملت ببنك إنجلترا وبعض شركات المقاصة، إلى أن أصبحت عضوًا بمجلس النواب البريطاني عام 1997، ثم رئيسة لحزب المحافظين البريطانيين 2002/2003.
واستمرت ماي في العمل السياسي الخدمي والعام إلى أن تم اختيارها لتولي حقيبتي الداخلية والمرأة والمساواة في الحكومة الائتلافية التي تم تشكيلها بعد الانتخابات العامة 2010، ثم الاكتفاء بالداخلية فقط منذ 2012، ليعاد انتخابها من جديد بعد فوز المحافظين في الانتخابات 2015، لتصبح أكثر وزير داخلية بقاءً في منصبه منذ 60 عامًا.
حققت تريزا ماي العديد من النجاحات طيلة فترة توليها وزارة الداخلية، لاسيما في عدد من الملفات الهامة، منها مكافحة المخدرات وإصلاح هيكل الشرطة بصورة عامة، إضافة إلى الملف الأكثر إزعاجًا لأوروبا وهو ملف الهجرة غير الشرعية، حيث أدخلت عددًا من القيود التي قللت من الآثار السلبية لهذه الظاهرة على المجتمع البريطاني، وهو ما دفع البعض لإطلاق لقب “المرأة الحديدية” عليها.
وبعد استقالة رئيس الوزراء ديفيد كاميرون من منصبه على خلفية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي تلبية لنتيجة الاستفتاء الذي صوّت عليه البريطانيون، باتت الساحة ممهدة لبزوغ نجم ماي من جديد، لاسيما بعد انسحاب المنافسة الأولى لها وزيرة الطاقة أندريا ليدسوم، لتجد تريزا نفسها على رأس حزب المحافظين تمهيدًا لتنصيبها غدًا رئيسة وزراء بريطانيا لتصبح المرأة الثانية في تاريخ الإمبراطورية البريطانية التي تولت هذا المنصب، بعد الحديدية مارجريت تاتشر.
“بلاد تخدم الجميع وليس فقط النخبة” تحت هذا الشعار استهلت رئيسة وزراء بريطانيا الجديدة أولى خطواتها نحو تقديم نفسها للشعب البريطاني في منصبها الجديد، لاسيما بعد حالة الانقسام التي مني بها المجتمع جراء قرار الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، علمًا بأن ماري كانت من أبرز الرافضين لهذا القرار، لكنها أكدت احترامها نتيجة الاستفتاء والانصياع لرغبة غالبية البريطانيين.
مغازلة أوروبا
لم يكن اختيار تريزا ماي لخلافة كاميرون اختيارًا عشوائيًا، لاسيما في هذه المرحلة الحساسة التي تمر بها بريطانيا عقب الخروج من الأوروبي، وما يمكن أن تواجهه من أزمات وعراقيل، وهو ما دفع الكثير من المحللين والسياسيين الأوروبيين للتأكيد على أن بريطانيا تحتاج إلى شخصية قيادية قوية قادرة على عبور هذه المرحلة إلى بر الأمان، فما دلالات هذا الاختيار؟ وهل بإمكانها قيادة الدولة العظمى إلى مكانها الطبيعي ومعالجة الآثار المترتبة على قرار الخروج الأخير؟
وللإجابة على هذه الأسئلة لا بد من القراءة السريعة لبعض المؤشرات التي تكشف النقاب عن مدى ملائمة اختيار ماي لقيادة بريطانيا في هذا الوقت الحرج.
أولاً: الشخصية القيادية: وهو ما يمكن قراءته من خلال تاريخ العمل السياسي لرئيسة الوزراء الجديدة، حيث تقلدت منصب رئيس حزب المحافظين مرتين، أثبتت خلالها قدرة فائقة على القيادة والإدارة بنجاح، فضلاً عن حياديتها المطلقة، وإيمانها بالعمل لصالح الوطن أيا كان الانتماء الحزبي، وهو ما تجسد في تصريحاتها الأخيرة التي تطرقت فيها لمستقبل حزب المحافظين حين قالت: “إنه من واجبات حزبنا الوطنية أن نحكم ونوحد البلاد بالطريقة الأمثل التي تضمن حماية مصالح بريطانيا، نحن بحاجة إلى نظرة جديدة وايجابية للمستقبل”.
أضف إلى ذلك النجاح الكبير الذي حققته خلال فترة توليها وزارة الداخلية، وهو ما انعكس بصورة ملحوظة على رجل الشارع العادي، والذي لمس أمنًا واستقرارًا ما لمسه من قبل، حيث حققت خطوات جادة وغير مسبوقة في بعض الملفات التي كانت تؤرق البريطانيين ليل نهار، في مقدمتها تحجيم تجارة المخدرات بشكل كبير خاصة بعد التهديد الأمني والصحي والمجتمعي فضلاً عن التهديد الاقتصادي لهذه المواد على المجتمع البريطاني، إضافة إلى وضع حزمة من القيود الضابطة للهجرة غير الشرعية للبلاد والتي مثلت طيلة العقود الماضية “صداعًا” في رأس الحكومة البريطانية، حيث انخفضت أعداد المهاجرين غير الشرعيين للبلاد بصورة ملحوظة جراء هذه القيود الجديدة.
ومن الدلالات القوية على الشخصية القيادية الصارمة لتريزا ماي، قدرتها على إعادة هيكلة المنظومة الإدارية والفنية للشرطة البريطانية بصورة مذهلة في الوقت الذي لم تصطدم فيه بأي من عناصر الجهاز فضلاً عن الأجهزة المعاونة، وهو ما اعتبره البعض أسلوبًا جديدًا في الإدارة يحسب لها، فضلاً عن نجاحها فيما فشل فيه كثير من الوزراء قبلها، وذلك في قضية ترحيل الإسلامي “المتشدد” أبو قتادة الفلسطيني، وإبعاده إلى الأردن في عام 2013.
ثانيًا: مغازلة أوروبا: توقع البعض أن رئيس وزراء بريطانيا القادم لا بد وأن يولد من رحم الاستفتاء الشعبي الذي قاد للخروج من الأوروبي، وتفضيل خيار الانفصال، إلا أن اختيار ماي تحديدًا لهذا المنصب – وهي من أشد المعارضين لهذا الخروج، والتي طالما ناشدت بضرورة بقاء بريطانيا داخل بوتقة الاتحاد، وتعهدت بألا تفعل المادة 50 من اتفاقية لشبونة للبدء في مفاوضات خروج البلاد من الاتحاد الأوروبي قبل نهاية 2016، وذلك لمنح الجميع الفرصة في الذهاب إلى المفاوضات استنادًا لموقف واضح حول طريقة وشكل التفاوض -، له دلالات ورسائل ضمنية تبعث بها بريطانيا لدول الاتحاد الأوروبي.
ماي تتمتع بقبول جماهيري لدى الكثير من الأوروبيين لما تنتهجه من فكر موضوعي محايد، يغلب مصلحة الجميع على مصلحة الفرد، فضلاً عن إيمانها الشديد بأنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تنفصل بريطانيا عن حاضنتها الأم “أوروبا”، وهذا ما كشفت عنه خلال العامين الماضيين، حيث عارضت الكثير من الأصوات التي طالبت بتسريع إجراء الاستفتاء للخروج من الاتحاد، وهو ما اعتبرته حينها “قرارًا غير محسوب”، ومع ذلك تعهدت باحترام نتيجة الاستفتاء والنزول على رغبة الشعب أيا كان موقفها الخاص، لتؤكد أن الخروج هو الخروج، على حد قولها، مما يعكس ديمقراطية في التفكير وموضوعية في الإدارة.
العديد من الخطوات والقرارات والتصريحات الصادرة عن رئيسة حزب المحافظين الجديدة ووزيرة الداخلية السابقة ورئيسة الوزراء المحتملة تكشف عن تشبثها بعدم الانفصال عن الأوروبي والمضي قدمًا نحو تفعيل سبل التعاون معه في شتى المجالات لاسيما الاقتصادية، وهو ما تجسد في مطالبتها بضرورة أن تتمكن الشركات البريطانية من الوصول إلى السوق الموحدة وفقًا لمبدأ حرية حركة الأشخاص والبضائع، لكن مع القدرة على ضبط الحدود وتدفق المهاجرين من أوروبا إلى بريطانيا، فضلاً عن رفضها القاطع لكل من فسّر الخروج من الاتحاد بأنه انفصال وقطيعة واستقلال، مؤكدة على إيمانها بأن العلاقة بين بريطانيا وأوروبا علاقة تاريخية لا يمكن لقرار أو استفتاء أن يؤثر عليها.
ووفقًا لسياسة ماي الجديدة في الالتزام بالخروج التنظيمي من الاتحاد الأوروبي طبقًا لنتيجة الاستفتاء، مع الإبقاء – في نفس الوقت – على العلاقات القوية مع دول الاتحاد والتمتع بالامتيازات المتوفرة، فهناك عدة نماذج يمكن الاستعانة بها لتحقيق هذه المعادلة الثنائية الصعبة:
- أ- النموذج النرويجي
فكما هو معلوم فإن النرويج عضو في السوق الموحدة، بجانب أيسلندا وليختنشتاين، إضافة إلى 28 دولة عضو في الاتحاد الأوروبي، فيما يعرف بـ “المنطقة الاقتصادية الأوروبية”، وحتى تتمتع النرويج بالتعامل مع دول هذا السوق، تقدم مساهمة لميزانية الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن التزامها بالموافقة على جميع القواعد المعمول بها داخل الأوروبي، مع تمتع جميع مواطني دول الاتحاد بحرية العمل والتنقل في النرويج، وهو ما يمكن أن ينطبق على الجانب البريطاني.
لكن في المقابل فهناك بعدًا سلبيًا لهذا النموذج يتمثل في عدم قدرة بريطانيا حال العمل بهذا النموذج على الإدلاء برأيها أو التصويت في أي قرار يتعلق بقواعد السوق الموحدة.
- ب- النموذج السويسري
وهو قريب إلى حد كبير من النموذج النرويجي، فلدى سويسرا اتفاق تجارة حرة مع الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن عدة اتفاقيات أخرى، منها 120 اتفاقية ثنائية مع بروكسل تتيح لها التعامل مع الأسواق الأوروبية، وهو ما يفسر تصدير سويسرا لما يقرب من نصف صادراتها لدول الاتحاد، بالرغم من أن السوق الموحدة لم تكن كلها متاحة أمام قطاع الخدمات السويسري.
وكما هو الحال في النرويج فإن الاتفاق المبرم مع الاتحاد الأوروبي يسمح بحرية حركة وتنقل مواطني دول الاتحاد داخل سويسرا، والاتفاق مع سويسرا أيضًا على حرية حركة المواطنين.
فهل من الممكن أن تكون تريزا ماري ماي رئيسة الوزراء الجديدة، الخليفة الحقيقية لمارجريت تاتشر وتقود بريطانيا إلى آفاق جديدة من التعاون الأوروبي المثمر والبنّاء بالرغم من الانفصال التنظيمي عن الاتحاد؟