وأنت تسير في الشوارع الخلفية لجامع السلطان محمد الفاتح وتحديدًا في منطقة “علي العتيق” ستندهش بمنطقة من نوع آخر، مختلفة بشكل كبير عن إسطنبول، منطقة ذات طابع ساحر ومختلف، وتحديدًا عند جامع يتوسط ذلك الحي على بوابته منقوش بخط عثماني “مسجد شيخ الإسلام إسماعيل آغا” في ذلك الحي العتيق من الأستانة تشاهد أحفاد الشيخ الأبيض آق شمس الدين ينتشرون بلباس إسلامي وبطراز عثماني حيث يرتدي الرجال القميص الطويل والسروال العريض ومن فوقهم جبة تضفي الكثير من الوقار للملابس وعمامة بأشكال مختلفة.
أما النساء فلا تظهر غير العيون والأنف من الملابس السوداء الواسعة، بينما تشاهد الشارع الرئيس للحي يزدحم بالمكتبات ومحلات بيع الملابس الخاصة بأهل ذلك الحي والعطور والبخور والمسابح والتمور وكأنك في أحد أسوق المدينة المنورة.
على جدران المكتبات صور لشيخ أبيض اللحية دقيق الملامح أبيض الوجه، تجد الصورة في أغلب المحلات في ذلك الشارع فينتابك الشعور العارم بالفضول: من هذا الشيخ ذو اللحية البيضاء، ومن هؤلاء الناس الذين لا يشبهون إسطنبول الحالية وكأنك تدخل للقرن السادس عشر الميلادي ولست في الألفية الثالثة، حيث يظهر ذلك الشغف بالتمسك بالملابس العثمانية والطبائع الإسلامية بتفاصيلها الصغيرة الرائعة.
بعد التقصي والسؤال بعربية فصحى، فلن تُفهم العامية العراقية أو الشامية ولا حتى المصرية، فأصحاب هذا الشارع قد تعلموا العربية عبر كتب النحو والصرف والإعراب وليس بالتعايش مع الزوار والوافدين العرب، سيأتيك الجواب أن من تسأل عنه هو محمود أفندي النقشبندي شيخ الطريقة النقشبندية وأحد أقطاب علم الفقه الحنفي في تركيا وصانع هذا المظهر الإسلامي بين أتباع يصلون بالملايين داخل وخارج تركيا.
هذا الأمر دفعني للتقصي بشكل أكبر عن الرجل الذي استطاع أن يقلب شكل وجوهر حياة الملايين من الناس في تركيا وخارجها، ففي تركيا العلمانية تجد مناطق بأكملها بالزي الإسلامي وبتعاليم خاصة يتم تنفيذها بشكل لا يقبل النقاش.
فمن هو محمود أفندي؟
ولد محمود أسطى عثمان أوغلو عام 1929 في أوف بمحافظة طرابزون التركية لعائلة مسلمة، ونشأ نشأة متدينة.
عين أفندي إمامًا لمسجد إسماعيل آغا في إسطنبول عام 1954 وظل فيه حتى أحيل للتقاعد عام 1996، وكان يقوم بالتدريس والوعظ في إسطنبول ويجذب الكثير من الطلاب والمريدين.
صوفي التوجه نقشبندي الطريقة، حنفي المذهب والفقه أخذ عن أبرز شيوخ الطريقة النقشبندية، ولكثرة تأثيره على الجمهور التركي تعرض للمضايقات من قبل الجمهوريين، خاصة بعد انقلاب 1960 ودخول البلاد حالة الطوارئ، وحكمت عليه الإدارة العسكرية بالنفي إلى مدينة إسكي شهير وسط تركيا، لكن القرار لم يطبق، في سنة 1982 اتهم أفندي بالضلوع في اغتيال مفتي منطقة أسكودار، وبعد سنتين ونصف حكمت المحكمة ببراءته من التهمة، وفي عام 1985 أحيل إلى محكمة أمن الدولة بحجة أن خطبه ودروسه تهدد مبدأ علمانية الدولة، لكن المحكمة قضت ببراءته.
في عام 2006 قتل الشيخ بيرم علي أوزتورك من أكبر طلاب الشيخ وصهره ومعيد درسه وهو يلقي درسه على كرسي الوعظ والإرشاد في جامع إسماعيل أغا، كما أطلق على سيارة الشيخ محمود أفندي الرصاص عام 2007 في محاولة لاغتياله لكنه لم يصب بأذى.
الرئيس التركي أردوغان مع الشيخ محمود أفندي
منهجية جماعة محمود أفندي وقدرتها على التأثير
مقتل أبرز شيوخ الجماعة ومحاولة اغتيال الشيخ المؤسس لها دليل واضح على حجم التأثير الهائل على الملايين من الأتراك والمسلمين، تتجسد هذه القوة مرة ثانية بالزيارات المتكررة لقيادة الصف الأول في الدولة التركية مثل الرئيس الحالي رجب طيب أردوغان ورئيس الوزراء السابق أحمد داوود أوغلو لطلب الدعم من الشيخ محمود أفندي في الانتخابات الماضية، مما يبين للمتابع حجم تأثير هذه الجماعة، ولكن كيف استطاع محمود أفندي أن يحدث هذا الحجم من التأثير في ظل دولة علمانية ضاربة الجذور في العلمانية عنيفة جدًا تجاه الإسلاميين.
تتمركز منهجية الجماعة في استغلال أموال الوقف المنتشرة في إسطنبول وتركيا وغيرها بصرفها على حلقات التعليم التي تديرها مشيخة الجماعة بطريقة احترافية، حيث يدخل الطالب بمراحل تعليم ضمن بيئة خاصة تجعل الطالب متأثرًا بالبيئة أكثر من تأثره بالمادة العلمية ويتم الصرف على كل طالب مستمر وفقًا للشروط التي يضعونها من مأكل ومشرب وملبس لحين إكمال دراسته، وقد يعين مدرسًا في نفس مدارسهم الدينية وهذه المدارس مفتوحة للجنسين معًا.
يتخرج هذا الطالب وأبرز ما يحمله في داخله عقيدة الولاء للجماعة ومريديها، فتجد الأمر يصل لأبسط الأمور، فمنتجات الشركة الفلانية لن تجدها لأن صاحبها علماني بينما ستجد أنهم يشترون من الشركة التي صاحبها إسلامي ومقرب أو تابع للجماعة حتى لو كان المنتج أقل جودة وأغلى ثمنًا.
وفق هذه المنهجية فإن وجودك ضمن هذه الجماعة كداعم لها سيمدك بالدعم من ملايين الناس التي تعتقد أنك جزء منها لا ينفصل، كما أن البعد القومي لا يتم إغفاله مطلقًا، فتجد الغالبية لهذه الجماعة تشعر بأنها من أحفاد آق شمس الدين شيخ السلطان محمد الفاتح.
أمور تميز جماعة محمود أفندي عن غيرها
تتميز هذه الجماعة عن غيرها بابتعادها التام عن العنف، فرغم كثرة المريدين وعدد المضايقات وغيرها من التفاصيل الأخرى فإن هذه الجماعة حافظت على عدم انزلاقها في أي أعمال عنف أو تشكيل تنظيم مسلح طوال فترة مواجهتها مع الدولة منذ منتصف الخمسينات من القرن الماضي وإلى اليوم.
كما تتميز الجماعة بزيها الخاص الذي يعتمره الجميع (رجال ونساء وأطفال صغار وشيوخ كبار) فالملابس النسائية السوداء كما يسمونها “Çarşaf” علامة مسجلة لهم، تلبس بطريقة خاصة كما ذكرت في بداية المقال حيث يظهر من الوجه العيون والأنف فقط، وكذلك ما يتميز به الرجال من تغطية للرأس وبالجلباب “cubbe” التي يرتديها الرجال.
ملابس جماعة محمود أفندي
أتباع المذهب الحنفي وتطبيق كل ما فيه بغض النظر عن الأمور الأخرى، فلا يأكلون الطعام البحري باستثناء السمك، ولا يقبلون بالمسح على الجوارب حتى في البرد القارص، غيرها من الأمور التي يطبقونها ويعيبون على من لا يلتزم بها.
يتكلمون العربية الفصحى فهم يدرسونها في مناهجهم ويتعلمون بعلومها من صرف ونحو وبلاغة، على عكس الكثير من الجماعات التركية الإسلامية التي تأخذ العلم دون رده للغة العربية، وهذه ميزة فريدة تحسب لهم وتجعلهم أكثر قدرة بالتأثر والتأثير بالعرب المسلمين.
وأخيرًا فإن هذه الجماعة وتجربتها تحتاج لكثير من البحث والدراسة خاصة فيما يتعلق بتجربتهم في إدارة أموال الوقف والقدرة على التأثير على الأتباع وغيرها من الأمور التي ما تزال غير مطروقة من قبل الباحث والكاتب العربي.