كثيرا ما يتعامل المنكوبون مع مآسيهم على أنه كوميديا سوداء، وكذلك عبرت أغنية “جاء جوازات” الساخرة عن ما ذاقه الوافدون-المهجرون من حملات الشرطة السعودية، والتي استهدفت المقيمين المخالفين، حيث يقول مؤلف الأغنية فايز تشودري وهو باكستاني ولد ونشأ في السعودية ويعمل في مركز تسوق بالرياض: “أريد أن أساعد غيري من المغتربين لاسيما أولئك المولودين هنا ليفهموا أن هذه بلادنا أيضا”، مضيفا: “أنا نفسي أشعر أنني سعودي .. أحيانا.”
فيديو أغنية جا جوزيات التي حصدت قرابة اثنين مليون مشاهدة:
ومنذ مارس آذار الماضي، غادر السعودية أكثر من مليون عامل أجنبي، عملوا لسنوات وعقود في مناصب ووظائف مختلفة، مدراء ومحاسبين وعمال وكذلك خادمات في المنازل، من بينهم نحو 120 ألف إثيوبي رحلوا في الشهر الماضي فقط، ضمن حملة على العمالة غير الشرعية تهدف إلى إتاحة مزيد من الفرص للسعوديين وإلى “ضمان الاستقرار السياسي والاقتصادي في المستقبل”.
محمد أحمد، يبلغ من السن 27 سنة، ينتظر مع آلاف الإثيوبيين في مركز يقع خلف مطار بولي في أديس أبابا بعد نزولهم من طائرات الخطوط الجوية السعودية بأمتعة قليلة، روى قصته لرويترز، وبدأ بالقول: “جرى طردنا من منازلنا وأعمالنا”، مشيرا إلى أنه عمل خمس سنوات في السعودية منذ أن وصلها عبر رحلة شاقة عَبَرَ خلالها البحر الأحمر في قارب صيد ثم برا عَبر اليمن، قبل أن يضطر مثل آخرين للرحيل بعد مهلة قصيرة.
وبالرغم من أن السعودية لم تشهد اضطرابات كبيرة خلال موجة انتفاضات الربيع العربي في 2011، فإن زعماءها يدركون جيدا بأن البطالة، المستفحلة في كامل العالم العربي، كانت عاملا كبيرا وراء الاحتجاجات في دول عربية أخرى، ويدركون أيضا بأن العمالة الرخيصة، التي يقدمها الوافدون البالغ عددهم عشرة ملايين شخص، تقوض جهودا حكومية سابقة لإقناع القطاع الخاص بتوظيف السعوديين البالغ عددهم حوالي 20 مليونا.
ومعظم الذين غادروا السعودية هم مهاجرون غير شرعيون، مثل أحمد، عبروا الحدود أو مكثوا في المملكة بعد موسم الحج، في حين وصل آخرون إلى السعودية بطرق شرعية ثم خالفوا نظام الإقامة الصارم الذي يلزم كل المغتربين بالعمل لدى جهة واحدة في مجال منصوص عليه في تصريح إقامتهم وهو النظام الذي يعتبر آلية قانونية تستخدم في أحيان كثيرة لاستغلال المهاجرين بشكل غير قانوني.
محمد يونس، وعمره 27 عاما، وصل إلى السعودية عن طريق شركة توظيف للعمل في فندق بعد أن اقترض لتدبير نفقات السفر لكنه أقيل من الفندق بعد فترة قصيرة، وطالبه كفيله ب1867 دولارا سنويا للتوقيع على أوراق إقامته وعدم التخلي عنه، مما اضطره للتنقل بين أعمال عدة في مواقع البناء ومتاجر البقالة لسداد ديونه، وأما الهندي عبد الكريم شمس الدين، وعمره 53 عاما، والذي عاد إلى ولاية كيرالا في الهند الأسبوع الماضي بعد أن عمل في متاجر عديدة لمدة 20 عاما، فيقول”عدت خالي الوفاض، كل ما كسبته أنفقته على تربية أولادي”.
وفي حديثه لرويترز، قال يونس: “أحاول العودة إلى السعودية، من المستحيل أن أسدد ديوني عن طريق العمل في الهند”، مع العلم بأن يونس عمل في السعودية لخمس سنوات ثم غادر خلال “فترة سماح” أعلنتها المملكة في شهر مارس آذار لتشجيع المقيمين المخالفين على العودة إلى بلادهم بدون دفع غرامات مع تمكينهم من طلب الحصول على تأشيرة جديدة في المستقبل، وهو ما دفع نحو أربعة ملايين شخص، حسب الحكومة السعودية، إلى تغيير تصاريح إقامتهم للبقاء في البلاد، بينما اختار حوالي مليون شخص المغادرة.
وفي شهر نوفمبر تشرين الثاني بدأت السلطات السعودية في مرحلة الترحيل القسري، وداهمت متاجر ومكاتب وأسواق في المناطق محدودة الدخل للتحقق من تصاريح إقامة العاملين هناك، وقالت وزارة العمل إنها ستنشئ محاكم جديدة للاستماع إلى شكاوى الوافدين ممن يكفلونهم لكنها لا تنوي تغيير نظام الكفيل نفسه بالرغم من طلبات تقدمت بها جهات كثيرة لتغييره، من بينها منظمة حقوقية سعودية تابعة للحكومة.
وأقرت منظمات دولية بحق السعودية في ترحيل المقيمين المخالفين وتغيير قواعد التوظيف لصالح السعوديين لكنها انتقدت الطريقة التي نفذت بها تلك الحملة، في حين قالت المنظمة الدولية للهجرة إن المرحلين إلى اليمن وإثيوبيا اشتكوا من سوء معاملة تشمل الاعتداء الجسدي وتردي وضع مراكز الاحتجاز التي مكثوا فيها قبل ترحيلهم، فعندما سارع الملايين إلى توفيق أوضاعهم في فترة الصيف بدت الإدارات الحكومية غير مستعدة لاستيعابهم وهو ما أدى إلى وقوفهم في طوابير طويلة في درجة حرارة 40 مئوية وبعضهم لأكثر من 24 ساعة.
ورغم أن تداعيات المعاملة اللا إنسانية كانت ملموسة وواضحة، ورغم ما عبر عنه ساسة في اليمن وإثيوبيا وباكستان وإندونيسيا والهند من قلق بشأن مصير مواطنيهم في المملكة، تصف الحكومة السعودية الحديث عن سوء المعاملة والتخبط في وضع السياسات بأنه حملة أجنبية لتشويه صورة المملكة، مشيرة إلى أنها ترحب بالوافدين الذين يلتزمون بالقواعد وإلى أن 250 ألف سعودي حصلوا على وظائف بفضل إجراءاتها هذه.
وبالرغم من أن نسبة البطالة الرسمية بين السعوديين تقارب 12 بالمائة فإن خبراء اقتصاديين يقولون أن النسبة الفعلية تصل إلى الثلثين، مع العلم بأن أغلب الموظفين السعوديين يعملون في وظائف حكومية وهي وسيلة تستخدمها المملكة لتوزيع الثروة النفطية وتحقيق السلام الاجتماعي.
وبالرغم من أن السعودية تعتبر أكبر مصدر للنفط في العالم وتتمتع حاليا بفوائض كبيرة، فإن اقتصاديين يقولون أن النمو السكاني ونمو الاستهلاك المحلي للطاقة يفرض على السعودية إلقاء عبء توفير الوظائف على القطاع الخاص حتى يستمر الازدهار.
وكانت تكلفة حملة الحكومة السعودية باهظة على كثير من العمال المهاجرين، ففي حي منفوحة الفقير في جنوب الرياض لقي إثيوبي حتفه في مواجهة مع الشرطة خلال المداهمات، وبعد عدة أيام تحول الغضب إلى اشتباكات بين المهاجرين الإثيوبيين وشرطة مكافحة الشغب وبعض السعوديين وهو ما أدى لمقتل ثلاثة أشخاص آخرين.
وبينما يقول السعوديون أن الإثيوبيين هم من بدأوا أعمال الشغب وانتشروا في شوارع حي منفوحة بالسكاكين والعصي، قال أحد العائدين إلى أديس أبابا، لوكالة روترز، أن مجموعات من السعوديين هاجموا الإثيوبيين واغتصبوا امرأة إثيوبية هناك، مضيفا أنه سلم نفسه خشية أن يقتل، وهو ما أكده كثيرون ممن شهدوا أحداث حي منفوحة.