عندما تسمع عن “البحر الأسود” قد تشعر بالخوف أو الارتياب من هذا الاسم، تتخيل طبيعته القاسية ورياحه العاتية التي أدت لصعوبة الملاحة فيه قديمًا مما أكسبه على بعض الأقوال هذا الاسم، ولكن على النقيض، فمنطقة البحر الأسود بتركيا الممتدة من شرق إسطنبول إلى حدود تركيا مع جورجيا هي منطقة غنية بالألوان نابضة بالحيوية، فلون بحرها الزاهي مع ألوان جبالها الخضراء التي تضربها الشمس فتشاهد لمعانًا مشرقًا ينعكس على لون سماء ضبابية، يريح العين فتطيب النفس لهذا المزيج اللوني المميز.
تلك الألوان التي تقترب من روحك تعكس بضعًا من نفسي، هذا السكون الذي يجلب سلامًا داخليًا تجده في هيبة الجبال، ووقار السحب، وتلك الأصوات المتداخلة ما بين أمطار تبلل رأسك حينًا، أو صوت الموج الذي تسمعه فيذكرك بماض، أو أصوات طيور تغادر موطنها فتعرف وتشاركها أحاسيسها، كل هذا يدفعك أن تمكث إلى نفسك لبعض الوقت، وتبدأ في محادثتها، تتأمل في خلق الله وتسبحه فتشعر بعظمته وترى بديع قدرته فتزداد يقينًا وإيمانًا.
البحر الأسود هو المدمر الحقيقي للأفكار التي تعتقد أن تركيا هي إسطنبول وفقط، لهذا من يخبرني بأنه زار إسطنبول وفقط، أخبره بأنه لم يزر تركيا، بل زار فقط إسطنبول! هذا المزيج بين الرياح الرطبة والجدار الجبلي الممتد دون انقطاع تقريبًا إلى الجنوب من الشاطئ خلق عالمًا لا تجد نظيره في مصر ولا في إسبانيا حتى!
منطقة البحر الأسود من المناطق المهمة اقتصاديًا لتركيا لاحتوائها أيضًا على موانئ هامة كميناء سامسون، ولاحتوائها على مراكز جذب سياحية كبيرة كطرابزون التي اعتبرت في السنوات الأخيرة مركز جذب سياحي هام للسائحين العرب نظرًا لما تحتويه من طبيعة جذابة لا تجدها فى أي مكان آخر بتركيا، كما سنرى في الوصف التفصيلي لكل مدينة قمت بزيارتها في المقالات القادمة، ولكن إذا أحببنا الإيجاز بشكل سريع، فلنعبر على تلك المدن سريعًا من الغرب إلى الشرق:
- زونجولداك
تأسست عام 1849 كمنفذ لشحن الفحم من المناجم القريبة، ولذلك تعتبر مدينة صناعية بامتياز، لا يوجد الكثير مما يمكن فعله كسائح بزونجولداك، ولكن يوجد بها مغارة جوكجول بطول 3375 مترًا، مفتوح منها قسم بطول 875 للزوار، ويوجد أيضًا الشواطئ التي قد تستمتع بها بالسباحة، غير ذلك فلا يوجد الكثير مما قد يجذب انتباهك هناك، لذا لا أنصح بها كمدينة تُزار فى ظل رحلة البحر الأسود.
- أماسرا
وهي غير “أماسيا”، مدينة صغيرة تاريخية تقع بمجافظة بارتن، بعيدة عن الزحام حيث إنها مدينة لا يأتي اليها الكثير من السياح بسبب عدم جودة الطرق الواصلة إليها، لكنها تمتاز بطبيعة مميزة وفاتنة، وجاء اسم بارتن من الكلمة القديمة “بارثينيوس”، ويعبرها نهر توجد على ضفافه مدينة عريقة وجسور تاريخية وبيوت قديمة يصل عمر بعضها إلى مائتين عام.
- سينوب
أعلى المدن شمالاً في منطقة البحر الأسود، لها أهمية استراتيجية على مر العصور، بها أيضًا مناظر طبيعية قد تلق اهتمامك لزيارة قصيرة إذا كنت تمتلك بعض الوقت، تشتهر سينوب بقلعتها التي كانت تستخدم لوقت قريب كسجن، تلك القلعة التي تبلغ من العمر أربعة آلاف عام حيث أنشئت عام ألفين قبل الميلاد، استخدمها كل من الكاسكا، والميليتس، والبونتوس، والرومان، والبيزنطيين، والعثمانيين، وقام كل منهم بتوسعتها وإضافة التمديدات والتعزيزات إليها لجعلها مُحكمة، ظلت هذه القلعة واحدة من أشهر سجون تركيا إلى وقت قريب، والآن تحولت إلى متحف.
- سامسون
أو كما أسميها “عروس البحر الأسود”!، أمتع مدن البحر الأسود وأجملها فى رأيي “كمدينة”، فهي مدينة كبيرة صاخبة ممتلئة بالخدمات، وساحلها الطويل المهيأ للتجول الذي لا تمل منه ولو مشيت لساعات، هي لا تعتبر مدينة سياحية بالمقام الأول، لكنها قد تكون نقطة توقف لك لتشاهدها عن قرب.
كان دخول البحر ممنوعًا إلى وقت قريب بسبب اتساخه، أما الآن فتم تنظيفه بشكل كبير، ويمكن دخوله من أي مكان بساحل سامسون، وتعتبر سامسون أيضًا أهم مدينة مينائية بالبحر الأسود، وترتبط أيضًا بشكل قوي عن طريق مطارها وطرقها الموصولة ببقية المدن، وبالطبع تشتهر سامسون بـ “الخطوة الأولى” لانطلاق أتاتورك فى حربه منها.
- أوردو
يعتبرها البعض من أجمل مدن البحر الأسود، بسواحلها وحدائقها القريبة من سواحلها ومبانيها التاريخية المعدودة ككنيسة طاش باشه، ولكنها تعتبر أيضًا من محطات التوقف القصيرة.
قد تصدمكم المباني القبيحة التي سترونها عند دخولكم المدينة، لكن على الطرف الآخر فإن الطبيعة الموجودة بها والحياة الاجتماعية التي يتميز بها سكانها تعتبر من الأمثلة التي قد يُشار إليها بالبنان على تعريف للفظ “مدينة بالبحر الأسود”.
- جيروسون
لها تاريخ لامع، فهنا اكتشف الرومان الكرز ونشروه للعالم كله، وقد قيل أن اسم جيرسون جاء من كلمة “كيروسوس” أي الكراز، ومدينة جيرسون قريبة جدًا من أوردو، يوجد بعض المزارات السياحية بجيروسون كقلعتها وكنائسها وجامع الشيخ كرم الدين وبيوتها التقليدية، لكن إذا كانت زيارتك للبحر الأسود قصيرة، فلا أنصحك أن تعبر بها فليس بها الكثير مما يميزها عن غيرها.
- طرابزون
أكبر وأهم مدينة بالبحر الأسود، وقعت تحت الاحتلال الروسي لما يقرب من العامين أثناء الحرب العالمية، ووقعت طرابزون تحت حكم العديد من الحضارات والإمبراطوريات أهمها البيزنطية والعثمانية، لذلك سوف تجد العديد من المباني العائدة لفترة البيزنطيين ككنيسة أيا صوفيا التي تحولت من ثلاث سنوات إلى جامع، طرابزون تشتهر بخضرتها وغاباتها وسهولها وجمال بحرها.
- ريزة
يقال إن اسمها جاء من الكلمة الرومية “تنورة الجبل”، لم يكن لريزة أهمية تاريخية ذات شأن لذا فلا يوجد العديد من الآثار التاريخية بها، مركز زراعة الشاي بتركيا، يزورها السياح غالبًا لزيارة مزارع الشاي وتسلق السهول الخضراء أو لزيارة “أيدر”.
….
يشتهر شعب البحر الأسود بعنادهم وقسوتهم، قد يكون ذلك بسبب الطبيعة الجبلية التي اعتادوا العيش فيها، ويشتهرون أيضًا بعشقهم الشديد لشرب الشاي، ولأنني لست شخصًا مولعًا بحب الشاي فلقد جربت الشاي الخاص بهم فإذا بي أجده مرًا، لا يحلو مهما أضفت إليه من سكر، لم يعجبني بالطبع لأنني لست من هواة الشاي، لكن قيل لي إن هذا يدل على جودته حيث ستستطيع تذوق الطعم الأصلي للشاي!
على جانب آخر يشتهر سكان تلك المنطقة بلهجتهم المختلفة في نطق اللغة التركية، والتي تعتبر من اللهجات الصعبة على غير المتحدثين بالتركية كلغة أصلية لفهمها، إذا كنت تعرف اللغة التركية، فأنصحك بالاستماع إلى موسيقاهم وأغانيهم وستلحظ ذلك الأمر بنفسك، وإذا كنت لا تعرفها فقد أنصحك أيضًا بالاستماع لأنها موسيقى ذات طابع مميز ومختلف.
وإذا انتقلنا إلى المطبخ الخاص بتلك المنطقة، سنجدها تتميز أيضًا بعدة أكلات شهية تستحق التجربة، وتسيطر الخضروات والأكلات المقترنة بها على ذلك المطبخ.
تلك كانت نبذة سريعة جدًا عن منطقة البحر الأسود، والتي كما ذكرت تستحق منك زيارة مخططة بشكل جيد قبل رحيلك من تركيا إذا كنت تمكث بها لأكثر من أسبوع.
نبدأ مقالنا القادم عن بداية رحلتنا مع أماسيا، فإلى لقاء قريب!