هل سبق وشاهدت فيلمًا لطائرة مروحية تسقط أوراقًا نقدية في الشوراع ليتلقفها الناس منذهلين من وهرة الواقعة، هذه الطريقة ليست خيالًا محضًا بل هي فكرة اقتصادية تعد جزءًا من تجربة فكرية وليست اقتراحًا فعليًا تعود لصاحبها ميلتون فريدمان 1969 حيث ترتكز الفكرة على البنوك المركزية التي يمكنها دائمًا زيادة عرض النقود وتخليص الاقتصاد من مصيدة الانكماش على حد تعبيره.
سياسة إنزال النقود بالمروحية، أو “برنامج مالي ممول بالنقود” (MFFP) كما يطلق عليه رئيس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي السابق بن برنانكي الذي وصفه بأنه “توزيع نقود مطبوعة حديثًا على المستهلكين مباشرة، وينطوي في جوهره على كتابة البنك المركزي شيكًا لوزارة الخزانة لدفع الحوافز، مثل التخفيضات الضريبية”.
المال بالمروحية! حال سماع هذا المصطلح الاقتصادي يتبادر إلى الذهن طائرة تقوم بإلقاء الأموال على السكان، فالانكماش الاقتصادي في اقتصاد ما يسبب ركودًا في عجلة الاقتصاد تؤدي إلى نتائج سلبية في أغلب المؤشرات الاقتصادية من انخفاض لمعدل التضخم لإمساك الناس عن الإنفاق والاستهلاك وانخفاض في الصادرات وبالتالي انخفاض في إنتاج السلع والخدمات فيتم تسريح العمال فينعكس على معدل البطالة سلبيًا.
تتبع البنوك المركزية سياسات نقدية ومالية للتخفيف من حدة الركود وإنعاش الاقتصاد وتحريك عجلته من جديد، وقد استخدمت البنوك المركزية عدة سياسات منها الفائدة الصفرية وسياسة التيسير الكمي وتخفيض الضرائب والبرامج التحفيزية، بهدف أن توفر سيولة مالية لدى البنوك تقوم بإقراضها للمؤسسات الاقتصادية التي تحتاج لقروض إما لفتح مشاريع جديدة أو لتوسيع مشاريع قديمة بالإضافة إلى إقراض الأفراد قروضًا استهلاكية لشراء المنتجات والخدمات.
التيسير الكمي: أداة بيد البنك المركزي يستخدمها عند مواجهة الاقتصاد خطر الانكماش، فالانكماش له آثار سلبية على الاقتصاد منها انخفاض الاستهلاك وانخفاض نسبة الاستثمار.
من أين يأتي البنك المركزي بالأموال؟
يقوم البنك المركزي بطباعة الأوراق النقدية لشراء سندات حكومية وخاصة وديون متعثرة لدى البنوك التجارية العاملة حسب برنامج التيسير الكمي، وقد حدث هذا في الأزمة المالية العالمية 2008 عقب انهيار بنك ليمان براذر والتي هزت الاقتصاديات العالمية والأسواق المالية بسبب ما كشفته من فجوة عميقة في ممارسات خاطئة بما يخص سياسة الدين والائتمان التي اتبعتها البنوك.
حيث قام الفيدرالي الأمريكي بشراء أصول مالية وسندات خزينة من البنوك العاملة في الولايات المتحدة بقيمة 2.1 ترليون دولار كمحاولة لتحفيز الشركات على الاستثمار وقد نجحت هذه الاستراتيجية نسبيًا حيث تمكن الفيدرالي من إعادة بيع تلك الأصول مرة أخرى بعد التعافي من الأزمة وتحقيق أرباح ضخمة.
استدعت الأزمة ابتكار أدوات نقدية من قبل المركزي غير الأدوات التقليدية التي لم تعد تفي بالغرض كاتباع البنك الفيدرالي الأمريكي سياسة التيسير الكمي للخروج من عنق الأزمة وعودة النشاط للاقتصاد ومعالجة مسألة انخفاض التضخم والركود، علمًا أن هذه السياسة قائمة على إغراق الأسواق (البنوك) بالسيولة المالية لتحفيزها على الإقراض بشكل أيسر من المعتاد.
كما يطبق البنك المركزي الأوروبي منذ العام الماضي 2015 سياسة التيسير الكمي من خلال شراء المركزي لسندات الخزينة من البنوك كما فعلتها عدة بنوك مركزية حول العالم في محاولة لإنعاش الاقتصاد الأوروبي وتحفيز الاستثمار ورفع معدل النمو وخفض معدلات البطالة، فعلى مستوى أوروبا يهدف المركزي من خلال هذا البرنامج إلى خفض عملة اليورو أمام العملات الأخرى وبالتالي اكتساب الصادرات الأوروبية ميزة تنافسية وخلق فرص عمل جديدة ما يساهم في زيادة معدلات النمو الاقتصادي.
وفي حال فشل التيسير الكمي! ما العمل؟
في أحيان كثيرة لا تعد سياسة التيسير الكمي ناجحة وذو فاعلية علمًا أن الفائدة قد تُخفض إلى معدل 0%، بل لجأت بعض البنوك المركزية في العالم إلى سياسة الفائدة السالبة كما هو حاصل في اليابان، ومع ذلك لم يتحرك شيء في الاقتصاد ولم تتعاف من الأزمة حيث بقيت المشاكل التي يعاني منها الاقتصاد من ركود وبطالة وانكماش.
فالبنوك وعلى الرغم من توفر السيولة اللازمة للإقراض بين يديها إلا أنها قد تمتنع عن إقراض المؤسسات الاقتصادية والأفراد تخوفًا من عدم استقرار الأوضاع الاقتصادية ولتنبؤات اقتصادية مستقبلية غير محفزة بالنسبة لها.
وقد أظهرت تلك السياسة حتى الآن على الأقل عجزها عن تحفيز الاقتصاد الواقع في هوة الركود كما في اليابان وبعض دول أوروبا والولايات المتحدة، وأصبحت محاولات البنوك المركزية من سياسة التيسير الكمي لا تجدي نفعًا أمام الأزمات الاقتصادية التي يواجهها العالم، لذا يعتقد العديد من المحللين أن الحل الأخير للأزمة قد لا يبتعد عن مفهوم إلقاء الأموال بالمروحية، فهي الأداة الوحيدة التي لم يجربها المركزي كأحد أدوات السياسة النقدية.
المال بالمروحية: زيادة السيولة المالية في أيدي الناس عن طريق تحويل الأموال (أوراق نقدية) بشكل مباشر لهم.
حاكم البنك المركزي الأوروبي دراغي وصف أن عملية “المال بالمروحية” مهمة لأن الركود لا يزال سائدًا والتضخم منخفضًا مما يعني أن الحكومات قد تلجأ إلى هذه العملية كمحاولة أخيرة لدعم الاقتصاد وتنشيطه.
وحول هذه السياسة قال بن برنانكي رئيس البنك الفيدرالي الأمريكي السابق، إنها “أداة قيمة وقد تكون أفضل بديل في الظروف الصعبة التي يواجهها الاقتصاد العالمي، لكن يبقى من السابق لأوانه إصدار حكم عليها”.
ويختلف الخبراء حول مدى صحة هذه الأداة في إنعاش الاقتصاد مما يعاني منه، حيث يرى البعض أن مجرد التفكير بتطبيق هذه السياسة يبين مدى اليأس والعجز الذي وقعت فيه البنوك المركزية في قدرتها على إنعاش النمو ورفع مستويات التضخم والدفع بالاقتصاد إلى الأمام.
ويذكر آخرون أنه مع استنفاد البنوك المركزية للسياسات النقدية التقليدية وغير التقليدية التي تطبقها لإنعاش الاقتصاد وتحريك عجلة الاقتصاد قد لا تجد بدًا من تطبيق المال بالمروحية كحل أخير يمكن تطبيقه لتحفيز الاقتصاد ورفع مستوى التضخم.
كما نقل عن الكاتب والمستثمر الأمريكي بيل جروس صاحب التأثير الكبير في الأسواق المالية تحذير للمستثمرين حول العالم من أن البنوك المركزية قد تلجأ إلى خيار المال بالمروحية لإنعاش الاقتصاد المتراجع.
وبرأي جروس فإن الآثار الجانبية السلبية لرفع الضرائب وإضافة المزيد من الديون الحكومية، تقود البنوك المركزية للتفكير بشكل جدي لتطبيق برنامج الإنفاق الجديد “المال بالمروحية”.
والجدير بالذكر أنه لم يسبق لدولة أو بنك مركزي تطبيق هذه السياسة حتى الآن لمعرفة آثارها السلبية وإيجابياتها على الاقتصاد وارتداداتها المرافقة معها لذا يعد هذا الحل بلا شك مجازفة حقيقية وغير مضمونة وتعرض الأسواق والحكومة لخطر غموض النتائج، والأكيد لدى جميع الخبراء أن هذه السياسة هي آخر الوصفات لمعالجة الركود الاقتصادي.
في النهاية إذا كنت قد حلمت يومًا ما أن طائرة ألقت عليك أموالًا أو أن السماء أمطرت نقدًا فاعلم أن هذا قد يصبح حقيقة يومًا ما!