قد نختلف في تحليل حدث تاريخي معين له أكثر من جانب، وقد تتباين آراؤنا في تقييم شخصية ما لها زوايا متعددة، بما لا ينفي وجود الحدث ولا كيان الشخص، وهو أمر طبيعي متعارف عليه بين المؤرخين، لكن حين يتم إخفاء أحداث تاريخية بعينها، وأشخاص معروفين بالاسم، إما بالتشويه أو التجاهل، فهذا ليس تأريخًا، بل هو الزيف بعينه.
مائة عام من تزييف التاريخ في مصر، إرضاءً للحاكم والسلطان، حين تصبح ذاكرة الأمة في أيدي ثلة من المنافقين والمنتفعين، يتلاعبون فيها وبها كيفما شاءوا، يقلبون الحق باطلاً، والباطل حقًا، والنصر هزيمة، والهزيمة نصرًا، دون الالتزام بأدنى القواعد العلمية المعمول بها في تأريخ الأحدث، هنا لابد من وقفه، فمتى يتوقف هذا الزيف؟
مائة عام من التزييف
تعرضت مصر في النصف الثاني من القرن الماضي لأكبر حملة تزييف لتاريخها الحديث والمعاصر، سواء على مستوى الأحداث الداخلية أو علاقاتها بمحيطها الإقليمي والدولي، وباتت عملية تأريخ الأحداث وظيفة للتربح لدى قطاع كبير من “مؤرخي السلطان” إلى الحد الذي تحول فيه النصر إلى هزيمة، والهزيمة إلى نصر، والنجاح إلى فشل، والفشل إلى نجاح، متوهمين أن الإشادة بزعيم لا بد وأن تقترن بالذم في آخر، وأن تسليط الضوء على حدث معين تتطلب بالضرورة تجاهل أحداث أخرى، وهو ما تسبب بشكل كبير في إحداث الفوضى التاريخية التي تحياها مناهجنا في الـ 60 عامًا الأخيرة.
الدكتور محمد صفي الدين خربوش، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، ورئيس المجلس القومى للشباب سابقًا، في ورقة بحثية له منشوره بالمركز العربي للبحوث والدراسات بالقاهرة، استعرض أبرز المحطات السياسية التي صاحبها تزييف لأحداثها التاريخية، مبينًا حجم التناقض الكبير في تناول الأحدث على حسب هوى كل حاكم وبطانته المعينة.
خربوش حذر من استمرار تلك الآفة التي أبتلي بها المصريون منذ عقود طويلة، والتي طغت فيها الاتجاهات السياسية على الحقائق التاريخية، مطالبًا بأن يكون التحليل الموضوعي للأحداث التاريخية قائمًا على قواعد علمية لا خلاف عليها، حتى لا يكون التاريخ عرضة لأي وصولي متسلق يبغي نفاق حاكم أو سلطة، في مقابل مكاسب مادية أو عينية رخيصة على حساب ذاكرة أمة بأكملها.
- أ- الحقبة الناصرية
حفلت كتب التاريخ في الحقبة الناصرية بكم مذهل من التزييف لحقائق التاريخ وأحداثه، حيث عزفت معظم المناهج حينها على أوتار التمجيد للقومية العربية وشخصية الرئيس جمال عبدالناصر، ومناهضة كل ما من شأنه سحب البساط من تحت أقدام الزعيم، أو مشاطرته لإنجازاته في مختلف المجالات، ويمكن الوقوف على بعض المحطات الهامة في تزييف التاريخ خلال هذه الحقبة.
أسرة محمد علي باشا: تعرضت الأسرة العلوية لأبشع جريمة تزييف في التاريخ خلال هذه الحقبة، حيث سلط مؤرخو عبد الناصر سهامهم لتشويه كل ما قام به محمد علي وأسرته من بعده، بزعم أنه لم يكن عربيًا ولم يؤمن بالقومية العربية التي لم تكن ظهرت حينها من الأساس.
نعتت كتب التاريخ في هذه المرحلة مشروع محمد علي بالفشل، واتهمته بالخيانة ومحاولة بناء إمبراطورية جديدة لأبنائه على أرض مصر، كما شوهت صورة أبنائه وأحفاده من بعده، حيث قدمت صورة الخديوي إسماعيل على أنه من أغرق مصر في الديون، والمتسبب الأول في الاحتلال البريطاني لمصر، في حين أن السلطات البريطانية هي التي أرسلت للسلطان العثماني لعزله، فضلاً عن الصورة التي قُدم بها الملك فاروق والتي لم تخرج عن إطار الملك الذي لا يشغل باله سوى ملذاته الجنسية الدنيئة وأطماعه الدنيوية الزائلة.
مع العلم أن أزهى عصور مصر الحديثة كانت خلال فترة حكم محمد علي والتي امتدت من 1848- 1905، حيث بنى أول جيش لمصر، فضلاً عن إرسائه لنظام الري المعمول به حتى الآن وليست القناطر الخيرية منا ببعيد، إضافة إلى اهتمامه بالتعليم وإيفاده للطلاب المصريين للتعلم في الخارج، ونقل خبرات العالم المتقدم لمصر، إضافة إلى الإسهام بشكل كبير في دعم العملية التعليمية في مصر، وهو ما تجسد في تبرع الأميرة فاطمة هانم ابنة الخديوي إسماعيل ببناء جامعة فؤاد الأول “القاهرة حاليًا” من أموالها وحليها، ومع ذلك لم يذكر اسمها مطلقًا في كتب التاريخ.
ويكفي أن نعلم أنه في فترة تولي محمد علي زمام الأمور تفوقت مصر على الدول العظمى اقتصاديًا وعسكريًا وسياسيًا، وليس أدل على ذلك من الكشف أنه وفي عام 1840 كانت الدولة العلوية في مصر تشمل مصر والسودان وشبه جزيرة العرب والشام وما يقرب من نصف تركيا.
وبالرغم من الدور العظيم الذي قدمه محمد علي وأبناؤه من بعده إلا أن ذكرهم في كتب التاريخ المصرية في حقبة عبد الناصر لم يخرج عن التشويه والتجريح فضلاً عن حذف أسمائهم من على مختلف الهيئات والمؤسسات التي كانت تحملها.
مرحلة الثورة: تعرض بعض الأشخاص في هذه الحقبة لحملة من التشويه والتزييف التاريخي المشين، يتقدمهم اللواء محمد نجيب قائد الجيش في 1952، وأول رئيس مصري بعد نهاية عصر الملكية، حيث تعمدت الكتب الدراسية في حقبة الستينات إغفال اسم نجيب نهائيًا، ودوره المحوري في الثورة، فضلاً عن مكانته عند فلاحي مصر حينها، كونه أول من وزع عليهم الأراضي الزراعية على عكس ما هو معلوم للمصريين، وبات ناصر هو أول رئيس مصري، كما تم تشويه صورة محمد نجيب واُتهم بالأخونة وما إلى غير ذلك من التهم التي برر بها عبد الناصر حينها وضعه تحت الإقامة الجبرية.
كذلك اتفاقية الجلاء التي وقعتها مصر 1954 لجلاء القوات البريطانية من قناة السويس، حيث تم الجلاء في يونيو 1956 وبات هذا اليوم عيدًا للجلاء، وتم تصدير المشهد أن هذا إنجاز جديد لعبد الناصر، مع إغفال كارثة لم يعرفها المصريون عن هذه الاتفاقية وهي أنها نصت على بقاء أجزاء من القاعدة صالحة لاستخدام القوات البريطانية في حالة حدوث اعتداء على إحدى الدول العربية أو تركيا! وعندما شاركت بريطانيا وفرنسا وإسرائيل في العدوان الثلاثي على مصر، قام عبد الناصر بإلغاء هذه الاتفاقية، أيضًا محاولة تبرئة عبد الناصر من فضيحة 1967 حيث تفنن مؤرخوه في استخدام مصطلح “نكسة” بدلاً من “هزيمة” وتم تسويق هذا المفهوم في شتى كتب التاريخ حتى الآن، وبالرغم من احتلال غزة وسيناء إلا أن هذا لا يهم طالما بقي الزعيم حيًا على قيد الحياة.
اللواء محمد نجيب لحظة اعتقاله من قبل رجال عبدالناصر
- ب- حقبة السادات
كما حدث مع الأسرة العلوية في الحقبة الناصرية تكرر نفس الأمر خلال الحقبة الساداتية، حيث أنبرى المقربون من السادات إلى تشويه صورة فترة حكم عبد الناصر، وأنها كانت حقبة اعتقالات وتعذيب، وأنه المسؤول الأول عن هزيمة 1967 وليس الجيش، وهو ما سجلته بعض الكتب التاريخية حينها فضلاً عن الأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية.
كذلك تم تصدير انتصار أكتوبر ليتصدر المشهد بصورة هائلة، وباتت ثورة التصحيح التي قام بها السادات مقدمة على ثورة 23 يوليو الناصرية، وهكذا سعى مؤرخو السادات لتشويه صورة الزعيم السابق محاولة لإرضاء الرئيس الحالي، كم تم تجاهل بعض المختلفين مع السادات فكريًا وسياسيًا مهما كان دورهم في هذه الفترة وفي مقدمتهم الفريق سعد الدين الشاذلي، الذي لم تذكره كتب التاريخ في فترة السادات، بالرغم مما قام به في حرب التحرير 1973.
الفريق سعدالدين الشاذلي أبرز قادة حرب أكتوبر والذي تجاهله السادات نهائيًا
- ج- حقبة مبارك
في هذه الفترة اكتظت كتب التاريخ بفضل مبارك في حرب أكتوبر، وأنه صاحب الضربة الجوية التي قادت مصر لتحرير سيناء، وأنه بطل الحرب والسلام، متجاهلاً من سبقه والدور الذي قاموا به في هذه الحرب، كما شهدت تلك الحقبة عراكًا حادًا بين أنصار عبد الناصر ومؤيدي السادات، وشارك في هذا العراك أفراد من أسرة الرئيسين الراحلين، ووصل هذا الصدام ذروته في اتهام الرئيس السادات بقتل الرئيس عبد الناصر بالسم، وجاء هذا الاتهام من قبل الابنة الكبرى للرئيس عبد الناصر.
مبارك رجل الحرب والسلام كما كان يلقبه مؤرخوه
- د- حقبة ما بعد ثورة يناير
وهي الحقبة التي تلت ثورة يناير2011، حيث تم الإطاحة بالديكتاتور الذي خيّم على صدور المصريين طيلة 30 عامًا، أذاقهم فيها ويلات المرارة والظلم والتنكيل، وبات تشويه مرحلة مبارك بكل ما فيها منهجًا لدى الكثير من الكتاب والمؤخرين، وأزيلت صور ولوحات مبارك من كافة الميادات ومحطات المترو، فضلاً عن حذف كل ما يمت له بصلة من كتب التاريخ.
وحين وصل الدكتور محمد مرسي لسدة الحكم، تم تعديل المناهج الدراسية وكتب التاريخ لتتناول الدور الدعوي والسياسي لجماعة الإخوان المسلمين، ونضال “الإمام الشهيد” مؤسس الجماعة، وحين تمت الإطاحة به انقلبوا عليه وجماعته، وتم حذفهم من المناهج مرة أخرى، واتهموا بالخيانة والعمالة، وبدلاً من تمجيد شباب الإخوان ممن حموا الثورة ورجالها، زُج بهم في السجون، ومجد غيرهم من شباب بعض الحركات والتنظيمات الأخرى، حتى باتت صور بعض التافهين ممن تم استخدامهم لتحقيق مآرب سياسية محددة على صدر المناهج الدراسية، وبدلاً من أن يقرأ أبناؤها سيرة أبطال أمته وإسلامه، بات يدرس السيرة الذاتية لمحمود بدر الشهير بـ “بانجو” مؤسس حركة تمرد الممولة من الداخل والخارج.
ثوار يناير ممن تحولوا إلى عملاء وخونة في عهد السيسي
تشويه لذاكرة الأمة
لا شك أن التعليم في مصر مثله مثل باقي القطاعات الأخرى جزء من النظام السياسي للدولة، ومن ثم لا بد وأن يخدم هذا القطاع أهداف الدولة، واستراتيجية النظام الحاكم، حيث إن السلطة هي من تختار وزير التعليم، وترسم سياسات المنظومة التعليمية برمتها، فضلاً عن اختيارها للجان التي ستتولى كتابة المناهج الدراسية ومنها كتب التاريخ، ومن ثم فمن المتعارف عليه في الأنظمة الفاشية، أن يتم استحضار أحداث واستبعاد أخرى، واختيار أشخاص وتجاهل آخرين، طبقًا لهوى السلطة، حتى لو كانت تلك الأحداث وهؤلاء الأشخاص من بديهيات التاريخ.
“الخلط بين السياسة والتاريخ مرفوض تمامًا”، بهذه الجملة استهل الدكتور عاصم الدسوقي أستاذ التاريخ بجامعة حلوان، حديثه عن هذه الإشكالية التي تعاني منها مصر منذ ما يزيد عن مائة عام، على حد قوله، مستشهدًا بما حدث إبان ثورة 1952، حيث تم البدء في تأريخها بعد عام واحد فقط من اندلاعها، وهو ما يعد خروجًا على معايير التأريخ الصحيحة، حيث لا يجوز التأريخ لأشخاص وهم لا يزالون على قيد الحياة، لأن ذلك يتسبب في أخطاء كارثية، حين يتم التركيز على شخص دون غيره، وحدث دون الآخر، وهو ما فعله الرئيس الراحل أنور السادات حين تعمد تجاهل ذكر دور الفريق سعدالدين الشاذلي في حرب العاشر من رمضان، لخلاف شخصي معه، رغم الدور البارز الذي قام به خلالها، وصولاً إلى حذف اسم الدكتور محمد البرادعي من قائمة المصريين الحاصلين على جوائز نوبل، فضلاً عن تجاهل بعض الأسماء والأحداث الأخرى.
الدسوقي استنكر وبشده، الكثير من المضامين المدرجة في كتب التاريخ بالمناهج الدراسية، مؤكدًا أنها تخضع للهوى الشخصي لمن يكتبها، لاسيما وأن القائمين على أمور كتابة التاريخ في مصر غير مؤهلين أو متخصصين في كتابة هذا النوع من المواد، مشيرًا أن أهل الثقة هم المقربون والمنوط بهم كتابة تاريخ الوطن، أما أهل الكفاءة والخبرة فالاستعانة بهم لا تكون إلا في أوقات الحرج وفقط، ولهذا يعاني الوطن من حالة تزييف حقيقي للتاريخ والوعي وتشويه للذاكرة.
كما أن غياب الاستناد للوثائق والمستندات عند كتابة التاريخ، جريمة لا تغتفر، مما يفتح الباب للتأويل على حسب الهوى، وحين نعلم أن لجان إعداد كتب التاريخ يتم الاجتماع بها من قبل بعض مسؤولي السلطة، وإعطائهم بعض الملاحظات والتعليمات التي يجب مراعاتها عند كتابة أحداث بعينها، بهدف إرضاء السلطة، وبما يتوافق مع هوى القائمين على أمور الوطن، فتلك كارثة حقيقية تصيب عقل الطلاب بالفصام والخلل، لاسيما وأن الأحداث التاريخية في مصر تختلف تفاصيلها تبعًا للمرحلة الدراسية، فالحدث التاريخي في مرحلة التعليم الأساسي تختلف عنه في الثانوي والجامعة، ومن ثم تعطي مساحة للتلاعب بفعل الحكام.
أمّا الدكتور محمود إسماعيل أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة عين شمس، فقط أطلق على من يكتبون التاريخ بهوى الحكام “مؤرخي البلاط”، ووصفهم بالمحامي الذي يدافع عن موكله المجرم مع علمه التام بجريمته، فهم بذلك يضربون عرض الحائط بكل القواعد العلمية الأكاديمية المعمول بها في التأريخ، مؤكدًا على أن تزييف التاريخ في مصر بات آفة العصر.
إسماعيل وضع عدة شروط يجب توافرها في المؤرخين، منها أن يكون حياديًا عادلاً مثل القاضي، يسجل الأحداث كما هي بوقائعها وتفاصيلها دون مراعاة هوى الحاكم أو رغبة السلطة، مطالبًا بضرورة مراجعة كتب التاريخ بمراحل التعليم المختلفة حيث إن بها أخطاء جسيمة تشوه ذاكرة الأمة، وتمحو أجزاء كبيرة من تاريخها، وهو ما يفسر حجم التناقض الكبير في تسجيل وتأريخ بعض الأحداث الكبرى بين مؤرخ وآخر، مما يقود في نهاية المطاف إلى فقدان الثقة في كل سجلات وكتب التاريخ مما يدفع الباحثين والمهتمين بالأحداث التاريخية إلى اللجوء إلى بعض الكتابات الأخرى الأكثر مصداقية.
فإلى متى تظل ذاكرة الأمة قصعة مستباحة في أيدي المهرولين للعزف على وتر نفاق السلطان؟ وإن لم نتحرك اليوم لانتشال أبنائنا بعد قرن كامل من التشويه المتعمد لتاريخ بلادهم، فمتى نتحرك؟