قبل أن يكون طفلك هو الضحية، هل سألت نفسك هل أنتِ مع الشريك المناسب للزواج أم لا؟ لا يمكن أبدًا لوم الطفل على أفعاله غير الواضحة التبرير، ولا يمكن أبدًا نسيان ما يفعله الآباء خلال تربية الأطفال عندما نلوم الأطفال على ما يتحولون إليه في المستقبل، فقد يكون على الأغلب نتاج أفعالنا تجاههم، لذا هل سألتِ نفسكِ، ما إن كان شريككِ مؤهلًا لتربية أطفالك أم لا، ماذا عنك أنت أيضًا، هل أنت نفسك مؤهلًا لمهمة تربية الطفل الكاملة، ماذا إذا كنت أنت نرجسيًا، أو ماذا عن كون شريكك نرجسي الشخصية كذلك، ما الذي يحدث إن قامت الشخصية النرجسية بتربية الأطفال؟
هل سمعت من قبل بمصطلح الـ Gaslighting؟ هو تعبير في اللغة الإنجليزية يمكن ترجمته إلى التلاعب العقلي، وهو مشهور في العلاقات العاطفية، إلا أنه لا يخلو من أي علاقة اجتماعية أخرى، فيمكن أن يحدث بين الأصدقاء، كما لا تخلو العلاقة بين الآباء وأولادهم من التلاعب العقلي كذلك، ويمكن تعريفه ببساطة بأنه الفعل الذي يتخده الشخص النرجسي تجاه شخص معين من الممكن أن يكون شريكه أو أحد أطفاله ليتلاعب بعقله بكفاءة عالية تمكنه من جعل ذلك الشخص يشك في نفسه وفي شخصيته الأساسية، لتهتز ثقته بنفسه كليًا.
العلاقة بين الطفل ووالديه هي من أكثر العلاقات غير المتزنة في العلاقات الاجتماعية، وذلك لاحتكار الوالدين على مكانة المسيطر في العلاقة، وإحكام مصدر القوة من جانبهم، مما يضع الطفل في موضع ضعف في أغلب الأوقات، إلا أنه لا يجب إنكار استغلال القوة مادام هناك قوة في المعادلة، حيث لا يتم تطويع تلك القوة لمصلحة الطفل دائمًا، فالأم أو الأب هما من يضعا قوانين اللعبة للطفل، هم من يحددون ما إن ستكون اللعبة ممتعة أم مخيفة، ما إن ستكون القواعد عقلانية أم ستكون القواعد قيودًا، فالأم والأب هما تجسيد الحياة وخبراتها وتجاربها بالنسبة للطفل، وهذا هو المصدر الأساسي الذي يبرر للوالدين استغلال طفلهما.
“هل أنا المجنون وأمي هي الطبيعية، أم هي المجنونة وأنا الطبيعي”، سؤال يسأله العديد من الأطفال في بداية طفولتهم، وتكون الإجابة على الأغلب بلوم الطفل لنفسه في البداية، حيث لا يستطيع الطفل في ذلك الوقت التفكير في كون والداه على خطأ، لذا كل ما يمكن أن يفكر به هو أنه المذنب في كل ما يحدث وليس الكبار، ففي ذلك العمر الكبار يكونون دائمًا على حق.
من هنا نعود للسؤال الأصلي، ما الذي يحدث إذا وقع الطفل ضحية لأب أو أم ذوي صفات نرجسية؟ إذا كنت أنت ذلك الطفل تعيس الحظ، فهذا يعني أنه لن يتم منحك الفرصة أبدًا لكي تنضج، بمعنى أن الأب أو الأم صاحبي الصفات النرجسية، لن يسمحوا أبدًا لأطفالهم بالاعتماد على أنفسهم، وسيسبب لهم ذلك مشاكل إذا فعلوا، إذا كنت أنت ذلك الطفل فاعلم أنه غير مسموح لك أن تتحلى بشخصيتك الخاصة، مهما كان عمرك، ومهما كانت خبراتك، عليك دومًا أن تعتمد عليهم، ليأذنوا لك بأي فعل تقوم به، مهما كان مهمًا وجذريًا في حياتك، وهذا ما يدفعك إما للخضوع لسيطرتهم ورغبتهم، وإما أن تتجاهلها وترحل مهما كلفك الأمر.
وهنا تبدأ المعركة بينك وبينهم، فيبدأون بالاتصال المستمر بك، والضغط عليك، فهنا تبدأ الحوارات الطويلة المنهكة، وهنا تفقد معنى “الحوارات الجيدة” بينك وبينهم، ليبدأ نوع واحد فقط من الحوارات بنفس الأسلوب ونفس الكلمات، والتي يمكن أن تمتد أحيانًا لساعات، ولا تسمع فيها أية معلومة جديدة، ولا حتى سؤال مفيد عنك، بل هي حوارات في اتجاه واحد، لا يمكنك حتى تسميتها بالنقاشات، إذا أردت التجربة بنفسك، جرب البحث عن “أمي تتصل بي كثيرًا” أو بالإنجليزية عن “My mother calls me too much” وستجد قصصًا لا نهائية عن نفس الموضوع، من أبناء خرجوا عن سيطرة أهاليهم، ووجدوا نفس ردة الفعل تقريبًا.
ليس هناك خيارًا للطفل في مرحلة الطفولة إلا الاستماع لوالديه، ولا خيارًا لديه إلا في الاستماع بشكل مطيع، ليست هناك فرصة للتعليق ولا للمناقشة ولا حتى له حق في التعبير عن اختلافه في الرأي، وهذا عندما يتمتع الأبوان بصفات نرجسية بالطبع، هذا لا ينطبق على العلاقات الصحية بين الوالدين الأصحاء وبين أطفالهم، فهم من يتمتعون بحدود صحية ومعالم صحية للعلاقة تفتقدها العلاقة بين الوالد النرجسي والطفل الضحية، وهنا تبدأ المشكلة عندما يمتلك الطفل موهبة الكلام والتحدث، وعندما يمتلك شخصية خاصة به، وآراءً تعبر عن تفكيره الخاص، فهذا يزعج النرجسي إلى حد كبير، فالعقل الباطن للنرجسي، يرى أنه هو مالك هذا الطفل، بل هو من صنعه، وهذا ما يعطيه الحق في التحكم فيه.
لا تتطلب السيطرة على عقل الطفل والتلاعب بمشاعره الكثير من الجهد، فتخيل معنا أب طويل، صوته عالٍ، وملامحه غاضبة للغاية، أمامه طفل صغير، قصير القامة وملامحه خائفة ومرتعبة، هذا كل ما يتطلبه الأمر ليبدأ الطفل في أن يشك في نفسه، ويعيد حساباته حول شخصيته، تخيل معنا المواقف التالية:
طفل يعيد صحنه إلى المطبخ، فيسقط وينكسر، يسرع الطفل في تبرير ما حدث بأن الصحن كان ملمسه ناعمًا للغاية، لذا انزلق من يديه وانكسر، ليجيبه الأب أو الأم بأنه فعل ذلك عمدًا، لأنه يريد إغضابهم ليس إلا، وهذا هو كل ما يفعله معهم، هنا يبدأ الطفل في الشك في نفسه، هل هكذا يراه أبواه بالفعل، مثيرًا للمشاكل مُحبًا لإغضابهم فحسب!
هناك موقف مشهور بين الآباء والأبناء لا يلاحظه العديد منا، وهو وعد الوالدين لابنهما بهدية معينة أو بفعل معين، حتى ولو كان بسيطًا، مثل إذا استمر الطفل في اللعب بهدوء سيأخذه والده لأكل البوظة، هنا يكون هذا الوعد ضخمًا ومهمًا للغاية في خيال الطفل، ولكن تخيب آماله حين ينفذ ما طُلب منه ويبدأ في السؤال عن متى سيذهب لأكل البوظة، ليجيب والداه بأنهم لم يقولا إنهما ذاهبان لأكل البوظة، وأن الطفل يكذب، ولا أحد يحب الكاذبين، هنا يعترض الطفل ويصرخ ويكون رده عنيفَا ليتم الرد عليه على الأغلب بعنف مماثل من قِبل الوالدين، ليعيدوا نفس المهمة السابقة، التشكيك في الطفل وإخباره بأنه مزعج ومثير للمشاكل دومًا.
هل هناك آباء يستمعون لأطفالهم ولا يعاقبونهم دومًا على أشياء لم يفعلوها؟ يمكنك بسهولة أن تسمع هذا السؤال من أحد الأطفال ضحايا الطفولة القاسية أو ضحايا الآباء النرجسيين، ولهذا يُعد اكتشاف فعل الـ “Gaslighting” أو التلاعب بعقلية الطفل وشخصيته صعبًا للغاية، وذلك لأنه ينشئ العديد من الأطفال متقبلين لما يحدث لهم، وذلك لأنهم يعتقدون بأن ذلك هو الطبيعي، وهو ما تسير عليه الأمور دومًا.
هناك سبب آخر لصعوبة اكتشاف ذلك الفعل، وهو حاجة الطفل الدائمة للأم أو الأب، واتصاله الدائم بهما بسبب احتياجه للحب والحنان منهما، واعتماده عليهما في توفير احتياجاته الأساسية، وهذا ما يدفع الأطفال لتقبل الوضع الراهن، واحتمالهم له على الرغم من اعتراضهم المستمر عليه، ومن الممكن في حالات عديدة أن يصدق الطفل أنه مزعج ومثير للمشاكل، ويعيش في تلك الحالة غير المرضية عن نفسه، ليتم وصفه في كثير من الأحيان بأنه غير طبيعي أو غير سوي الفطرة، وأحيانًا مجنون.
عندما يترك الأولاد منازلهم الأصلية ويبدأون في الاعتماد على أنفسهم ومواجهة الحياة من منظورهم الخاص، ويبدأون في التعرف على عائلات أصدقائهم، يجدون أن ما كان يظنوه بالطبيعي، ليس بالطبيعي على الإطلاق، وأنهم ليسوا سيئين بتلك الدرجة التي كانوا يتصورونها عن أنفسهم، وعندما تتم المواجهة بينهم وبين أهلهم، ينكر أهلهم ما حدث تمامًا، وينعتوهم بالأولاد الجاحدين.
ما يحب أن يراه النرجسي هو نسخة مُصغرة منه في أطفاله، فهو يملك طفله، ويراه كأنه قطعة يجب أن تكون مستنتسخة منه، لذا عندما ينحرف الطفل عن المسار المحدد له في عقل والديه، يواجه المشاكل، ويبدو منحرفًا بالنسبة إليهم، حيث يقرر العديد من الآباء اللجوء إلى “العلاج بالصمت”، وهي طريقة مشهورة يتبعها العديد من الآباء والأمهات، على الرغم من أنها في حقيقتها طفولية للغاية، إلا أنها، في نظر النرجسيين والعديد من الآباء والأمهات، طريقة فعالة لعقاب أولادهم، إلا أنها لا تفعل أي شيء يزيد عن شعور الأبناء بأنهم يتم تجاهلهم من قِبل من المفترض أن يكونوا أقرب الناس إليهم، وأفهم الناس بهم وبحالتهم.
الخبر السعيد هنا، أن العقل يستجيب للتغيّرات، ويمكنه التجاوز والشفاء، ويمكنه تخطي ما حدث في مرحلة الطفولة، فيمكن لمن عاش طفولة قاسية أن يغير صورته عن نفسه ويُحسنها، ويمكنه تطوير ثقته بنفسه مع الزمن، نعم لن يزول أثر ذلك كليًا، إلا أنه لا يجب أن يستمر أثره طويلًا، حيث يمكنك أن توقف ذلك الآن، وأن تبدأ في تجربة الحياة بمنظورك أنت، أو على الأقل بمنظور مختلف.
الخبر السعيد الآخر هو أنه يمكن التحكم في كل تلك الأفعال من قِبل الآباء والأمهات فور علمهم عنها، معرفة الآثار النفسية السلبية على الطفل خلال مرحلة تربيته مهمة جدًا لكل من هم حديثي الأبوة والأمومة، كل شيء قابل للتغيير والتطويع، يجب فقط أن نكون على دراية به، وأن نعترف بالخطأ بأنه خطأ ويجب عليه أن يتوقف الآن.