يعود الجدل مجددًا في تونس مرة أخرى ليشعل الساحة السياسية بعد عودة الحديث هذا الأسبوع عن عرض مشروع المصالحة الوطنية على مجلس نواب الشعب، وهو القانون الذي طرحه رئيس الجمهورية الحالي الباجي قايد السبسي والذي أثار اعتراضًا كبيرًا وصل حد التظاهر ضده من قبل قسم كبير من الشعب التونسي ومنظمات المجتمع المدني وحتى بعض الأحزاب السياسية.
وتسبب هذا القانون منذ بداية الحديث عنه إلى انتقادات شديدة لصاحب فكرته الأولى رئيس الجمهورية وكذلك لكل الداعمين له وذلك لأسباب عديدة ومتعددة، حتى إن البعض رأى فيه رصاصة الرحمة التي تطلق على الثورة وإيذانًا بعودة آخر قوافل رجال العهد الماضي إلى الحكم الفعلي في تونس.
وهو القانون الذي يخص في جانبه الأعظم رجال الأعمال الذين كانوا داعمين للنظام السابق ولأنشطة الحزب الحاكم السابق والذين تمتعوا طوال 23 سنة بمنافع مالية كبيرة من أموال المجموعة الوطنية بطرق ملتوية تستند على ولائهم للرئيس السابق مما يجنبهم العقاب في ذلك الوقت رغم نهبهم لأموال التونسيين وتمتعهم بخيرات هذا الوطن عن طريق القروض العملاقة دون فوائد وعن طريق الرشاوى والتحكم في الصفقات العمومية في الوقت الذي كانت فيه البلاد تعاني من ارتفاع نسب البطالة والفقر والتهميش والتي تسببت في إشعال ثورة الحرية والكرامة.
ويقوم مشروع القانون في صورته العامة حسب فصوله الاثني عشر على عدم التتبع القضائي في قضايا الفساد المالي للموظفين العموميين بالدولة ورجال الأعمال السابقين – فيما عدا قضايا الرشوة والاستيلاء على المال العام – وفي المقابل إعادة الأموال بناءً على لجنة تم تشكيلها تنظر في طلبات الصلح وتقر ما يمكن الصلح بشأنه من عدمه، وما تقره اللجنة للصلح تقدر قيمته ماديًّا على أن يتم إعادة دفعها بزيادة 5% عن كل سنة من تاريخ الحصول على الصلح، وهو المشروع الذي أعلن عنه الباجي قايد السبسي يوم 20 مارس 2015 في خطاب له قائلاً “حان الوقت لتجاوز حقبة الماضي ولا بد من مصالحة وطنية”، ومبررا ذلك بالقول أنه يجب طي صفحة الماضي وإغلاق الملفات المرتبطة بالانتهاكات المتعلقة بالفساد المالي والاعتداء على المال العام.
ورغم أن القانون قد لقي معارضة كبيرة بعد عرضه في المرة الأولى مما اضطر رئاسة الجمهورية لسحبه وإعادة صياغته إلا أنها قد أعادت تقديمه في مناسبة ثانية لمناقشة فصوله في مجلس نواب الشعب في صيغة قال العديد من السياسيين إنها لا تختلف عن الصيغة الأولى للقانون، مؤكدين أن رئاسة الجمهورية لم تغير من مشروع القانون شيئًا بل أرادت فقط أن تمتص غضب المحتجين في ذلك الحين ثم تهدئة الوضع إلى حين إعادة تقديمه بنفس الصيغة دون تغيير في وقت جهنمي يعاني فيه البلد من وضع اقتصادي صعب ومن سقوط الدينار إلى أدنى مستوياته، والتعلل بأن هذا القانون سيعيد العجلة الاقتصادية إلى الدوران وسيخرج بالبلاد من أزمتها الاقتصادية عن طريق إعادة منح الفرصة لرجال الأعمال المذنبين والصفح عنهم، مستعينين في ذلك بهرسلة إعلامية كبيرة من وسائل الإعلام من أجل تمرير هذا القانون في هذه الفترة الحساسة من تاريخ البلاد.
لعله صار من الأكيد أن باعثي هذا القانون أرادوا فقط تمرير رسالة إلى الشعب التونسي مفادها أنه سيتم خلال فترة حكمهم القطع مع كل مخلفات الثورة والعودة إلى رجال العهد الماضي وخصوصًا من رجال الأعمال المستعدين لبيع ذممهم مرة أخرى كما فعلوا في الأولى، والذين ظلوا طوال السنوات الفارطة وهم ينتظرون لحظة خلاصهم ووصول أتباعهم للحكم في تونس، خصوصًا مع ما تؤكده كل المؤشرات التي أصبحت يقينًا بأن هؤلاء المفسدين قد ساهموا ماليًا ولوجستيًا في مساندة العديد من الأحزاب والشخصيات السياسية خلال فترة الانتخابات التشريعية والرئاسية الماضية مقابل وعود تلقوها بإيجاد حل لهم وتبرئتهم في أول مناسبة عند تولي هذه الأحزاب للحكم، مما يؤكد مرة أخرى بأن هذا القانون ليس وليد اللحظة ولا نتيجة الوضع الاقتصادي الصعب الذي تعيشه البلاد بل مجرد ابن غير شرعي لعملية الابتزاز التي جرت بين حكام البلد الحاليين وهؤلاء المتهمين.
ولا يمكن وصف هذا القانون الذي قام باعثوه باستغلال سلطهم أسوأ استغلال سوى بـ “قانون الصفح بالوكالة” ومنح صك الغفران للمذنبين في مخالفة واضحة للدستور ولقانون العدالة الانتقالية وفي تعدٍ صارخ على صلاحيات عمل هيئة الحقيقة والكرامة، حيث تقوم العدالة الانتقالية التي أقرها الدستور التونسي والتي تلتزم الدولة بتطبيقها في كل المجالات على مبادئ واضحة وهي المساءلة، ثم المحاسبة، ثم بعد ذلك المصالحة.
هذا بالإضافة إلى مخالفته لعديد الفصول في الدستور التونسي وأهمها الفصل 110 والذي منع إحداث محاكم استثنائية كما منع سنّ إجراءات استثنائية – مثل هذا القانون – من شأنها المساس بمبادئ المحاكمة العادلة، دون الخوض كثيرًا في مسألة الهيئة الإدارية التي نص القانون على إنشائها للنظر في مطالب المصالحة والتي لا يمكن أن تعتبر هيئة قضائية، لا من جهة تركيبتها، ولا من جهة وظيفتها، ولا من جهة الإجراءات المتبعة أمامها، والتي يتلخص دورها في نزع القضايا من أمام “هيئة الحقيقة والكرامة”، وخاصة هيئة التحكيم والمصالحة، مما يمثل تعارضًا فاضحًا مع مبدأ الفصل بين السلطات الذي نصت عليه توطئة الدستور، بالإضافة إلى قراراتها غير القابلة للطعن، على اعتبار أنها محصنة قضائيًا، ولا تقبل الطعن بأي وجه من الوجوه.
ولعله لا يمكن اختزال هذا القانون وتبسيطه إلا بالاستعانة بمقولة أستاذ القانون الدستوري التونسي قيس سعيد والذي لخص كل المخالفات القانونية والدستورية التي قام بها أصحاب هذه المبادرة في أحد لقاءاته الإعلامية قائلاً “إن المصالحة الوطنية يجب أن تكون تتويجًا لمسار، لا منطلق له”، معتبرًا أن المصادقة على هذا المشروع ضرب للعدالة الانتقالية، منبهًا إلى أنّ يوم المصادقة على هذا المشروع إن تمّت سيكون يوم جنازة العدالة الانتقالية، التي ستنطلق من أمام قصر باردو، وسيكون من صادقوا عليه في مقدمة المشيّعين، على حد تعبيره.
مما يجعلنا أمام حتمية القول بأن رئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي وداعميه وبمساندة بعض الأحزاب الحاكمة قد قاموا من خلال هذا القانون بالصفح عن 460 رجلاً من رجال الأعمال المتهمين بالفساد المالي بالوكالة عن الشعب التونسي ونيابة عنه دون احترام للدستور ولا لدماء الشهداء ولتضحيات المناضلين في حركة تعتبر إهانة كبرى لهذا الشعب واستخفافًا بكرامة الملايين ممن ظلوا مجرد متفرجين صامتين لا حول لهم ولا قوة أمام أكبر عملية تحايل تقوم بها هذه الأطراف منذ توليها الحكم في تونس.