في 14 يوليو من العام 2015 وقعت مجموعة (5+1) أو ما تسمى الدول العظمى اتفاقًا تاريخيًا مع إيران حول برنامجها النووي، وبمقتضاه تعهدت إيران “بالخضوع لمراقبة وتحقق وتفتيش دقيق وغير عادي”، لمراقبين من الوكالة الدولية للطاقة الذرية، هيئة المراقبة النووية العالمية، في أي وقت يتطلب لذلك.
كما وافقت إيران أيضًا على تنفيذ البروتوكول الإضافي لاتفاق الضمانات الموقع مع الوكالة الدولية، والذي سيتيح للمفتشين الدخول إلى أي موقع يثير شكوكهم في أي مكان بالبلاد، ووافقت طهران أيضًا على عدم القيام بأية أنشطة بما في ذلك البحث والتطوير، والتي من شأنها أن تساهم في تطوير قنبلة نووية.
وقبل هذا الاتفاق امتلكت إيران مخزونًا كبيرًا من اليورانيوم المخصب وحوالي 20 ألفًا من أجهزة الطرد المركزي، وهو ما يكفي لإنتاج ما بين ثماني إلى 10 قنابل نووية، وفقًا للبيت الأبيض.
وقدر خبراء أمريكيون وقتها أن إيران لو قررت إنتاج سلاح نووي سيكون أمامها شهران أو ثلاثة أشهر فقط للحصول على كمية كافية من اليورانيوم المخصب 90% اللازم لإنتاج القنبلة ما يسمى “زمن التقدم”، وهو الوقت الذي تحتاجه إيران لامتلاك كمية كافية من اليورانيوم المخصب لإنتاج سلاح نووي.
مفاعل آراك الإيراني
وقال البيت الأبيض إن اتفاق خطة العمل المشترك الشاملة سوف يحرم إيران من العناصر الأساسية التي تحتاجها للحصول على القنبلة وزيادة الزمن اللازم للحصول على كمية اليورانيوم الكافية إلى عام أو أكثر.
وفي البداية، رحّبت الدول في المنطقة (باستثناء إسرائيل، على الأقل رسميًا) بـ”خطة العمل المشتركة الشاملة”، مع أنّ الترحيب السعودي كان فاترًا في أحسن الأحوال.
وبشكل مطيع، وقّعت جميع دول الخليج التي حضرت مؤتمر القمة بين الولايات المتحدة و”مجلس التعاون الخليجي” في السعودية في شهر أبريل الماضي نصًّا مؤيدَا لـ “خطة العمل المشتركة الشاملة”، وهي خطة تعمل عليها الولايات المتحدة الأمريكية للتقريب بين ألد الأعداء “فارس والخليج” وسط فتور خليجي لتلك المقاربة التي تحاول واشنطن فرضها، يتضح ذلك من خلال غياب الملك سلمان عن كلٍّ من “مؤتمر قمة الأمن النووي” لعام 2016 في واشنطن، ومؤتمر القمة الأول بين الولايات المتحدة و”مجلس التعاون الخليجي” في عام 2015.
والفتور الخليجي ناتج عن تخوف من أن تكون خطة العمل المشتركة بمثابة اعتماد واعتراف بثقل إيران وواقع البرنامج النووي وهو ما قد يزيد ثقلها عبر الدبلوماسية والمال والوكلاء في المنطقة العربية من خلال الاستفادة من عشرات مليارات الدولارات المتأتية من مكاسب النفط التي كانت محرومة منها ومن الصادرات المتجددة من النفط.
الرابحون
وبعد عام من الاتفاق النهائي بين الغرب وإيران لاحت في الأفق بشكل واضح علامات الرابح والخسارة من هذا الاتفاق، فبدأت إيران تجني ثمار الاتفاق النووي من خلال التمدد في أكثر من قطر عربي وتوسيع علاقتها التجارية، يقابلها حكومة الاحتلال الإسرائيلي الذي استغل توجس العرب من ذلك وشيطنة إيران والتقرب نحوهم لانتزاع التطبيع العربي ومن ثم ضربهم في مقتل من خلال توسيع علاقته الدبلوماسية شمالاً (تركيا) وجنوبًا (إثيوبيا ودول إفريقية) حيث وصل الأمر لاستقبال تل أبيب وزير الخارجية المصري سامح شكري وهي أول زيارة لمسؤول مصري كبير منذ عام 2008 لإحياء ما أسموها (خطة السلام العربية).
وأصبح هناك أشبه من بحلف عربي إسرائيلي في مواجهة ما يسمى بالخطر الشيعي، وهذا ما يؤكده حديث نتنياهو في مؤتمر دافوس الاقتصادي في الشهر الأول من عام 2016 حينما قال: “إن كثيرًا من الدول العربية أصبحت حليفًا لنا في محاربة داعش وايران، ولم تعد عدوًا لنا”، وهو إعلان ربح صريح من دولة الكيان.
وإجمالًا تعد إسرائيل هي الرابح الذي يرفض الاحتفال، وكان هذا الاتفاق فرصة ثمينة قد لا تتكرر بتكوين التحالفات التي بدأت تتفعل بشكل أو بآخر، وتمنح الكيان الإسرائيلي فرصة التنفس والتوسع الاستيطاني والمشاركة في القرار الاقتصادي بالدول المحيطة بالوطن العربي، وسيظل ذلك سرًا إلى حين يتكشف العرب ذنبهم بعد أن يقترب الحلم الإسرائيلي من التحقق (السيطرة من النيل إلى الفرات).
وتعد إيران هي الرابح الأول قبل إسرائيل من خلال الاستفادة من 100 مليار دولار التي كانت مجمدة في البنوك العالمية، لتعزيز تواجدها في المنطقة العربية، فهي زادت تمسكها في كل من سوريا وهناك تحقق مع حلفائها حزب الله اللبناني وجيش النظام السوري المدعوم روسيًا تقدمًا على الأرض، وفي العراق حققت مليشيات الحشد الشعبي التي يشرف عليها الجنرال قاسم سليماني شخصيًا (رفقة مع الجيش) انتصارًا ساحقًا على تنظيم الدولة، وفي اليمن عززت توجدها في جبهتين (الحوثي والحراك الجنوبي) وفي لبنان تجذر تواجدها من خلال الفراغ التي تركته السعودية هناك.
وعلى المستوى الداخلي يعد الجيش الإيراني من بين الرابحين للاتفاق النووي، فقبل اﻹعلان عن الاتفاق زاد روحاني ميزانية الجيش بنسبة 23%، وفي ظل تلك الموارد المالية الجديدة تمكن الجيش اﻹيراني من تعزيز وجوده في كل من العراق وسوريا ولبنان واليمن ( شمالًا وجنوبًا) ومد الحوثيين بالعتاد الحربي وبأسلحة نوعية ومتطورة.
وأظهرت نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة في إيران، بأن الاتفاق النووي أخذ يعمل بالمقابل على إعادة هندسة المشهد السياسي الداخلي في إيران.
ويمكن القول بأن المنافسة الحقيقية في انتخابات 26 فبراير كانت على المستوى الشعبي، تجري بين أنصار الاتفاق النووي والتقارب مع الغرب، وبين معارضي الاتفاق، من أنصار الحفاظ على مبادئ الثورة.
وقد تجلّت تلك المنافسة بشكل أوضح في العاصمة طهران، حيث اتجه الناخبون في انتخابات مجلس الشورى إلى التصويت لصالح أشخاص لا يعرفونهم جيدًا ليتمكنوا من إقصاء أشخاص يعرفون بأنهم سيعملون على إفراغ الاتفاق النووي من محتواه عبر عرقلة تنفيذه.
وأظهر الاتفاق النووي ومن بعده الانتخابات التشريعية تنامي مكاسب التقارب بين “البراغماتية الثورية” لِطَيْف روحاني – رفسنجاني، و”الواقعية الثورية” للتحالف الحاكم، مقابل اضمحلال “المثالية الثورية” للتيار الأصولي.
الخاسرون
تبدو المملكة العربية السعودية أكثر الدول الخليجية تضررًا من الاتفاق النووي، نتيجة لتخوفها وعدم دراسة الأمور بجدية، حيث سارعت المملكة إلى إظهار عدائها الشديد لذلك الاتفاق من خلال مشروع ما أسمته التصدي لإيران وأعلنت حربًا ضد الحوثيين في اليمن وضمت معهم الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح، إضافة إلى إصرارها على الحسم العسكري في سوريا، والتخلي عن لبنان في أحلك ظروفها.
تلك الأفعال لم تظهر الحنكة السعودية بل جعلتهم في محل انتقاد واسع من منظمات ودول إقليمية، أبرزها حديث الرئيس الأمريكي باراك أوباما لمجلة “أتلانتيك”، واتهامه للملكة العربية السعودية بدعم التطرف والإرهاب في الوطن العربي، ودعاها إلى أن تتعلّم “مشاركة” الشرق الأوسط مع إيران.
فواقع أنّه يُلقي العبء على الرياض – وهي حليفة للولايات المتحدة كما أنها، مهما كانت شوائبها، مؤيّدة للوضع العالمي الراهن الذي تقوده الولايات المتحدة – بدلاً من إلقائه على إيران، التي تشكل خصمًا معروفًا لهذا النظام، هو واقع لافت للنظر.
وبدلاً من أن تعمل السعودية على تقوية علاقاتها على الأقل في اليمن، عملت على تدمير الجيش اليمني، متخوفة من الحوثيين التي قالت إنهم تابعون ﻹيران، معتمدة على تصريحات الرئيس عبدربه منصور هادي، مع أن الحوثيين لبوا أول دعوات وجهتها لهم السعودية في ظل تلك الحرب، وصاغوا هناك اتفاقية التبيعة في ظهران الجنوب.
إن سلوك وممارسات المملكة العربية السعودية التي بادرت إلى تشكيل الأحلاف وتحويل الحرب الدائرة في المنطقة إلى حرب مذهبية وبأشكال مختلفة جعلت الثقة تهتز بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية، وتعد هذه أكبر خسائر المملكة، والفجوة تلك مرشحة للأتساع مع إعلان أول رئيس قادم للولايات المتحدة الأمريكية.
وفي النهاية فإن الخاسرين الحقيقيين بالواقع هم شعوب سورية والعراق واليمن ولبنان الذين يدفعون ثمن حرب غيرهم على أرضهم.
فكما أعلن الجانبان الأمريكي والإيراني أن هذا الاتفاق لا يعني زوال الخلافات الأساسية، لذلك سيتابعان حروبهما بالوكالة على الأراضي السورية والعراقية.