في 8 حزيران/يونيو، التقى وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، بنظيريه الإيراني والسوري في العاصمة الإيرانية طهران. إيران وروسيا هما حليفتا نظام الأسد، ومصدر حمايته وبقائه، وبالرغم من أن ما رشح عن الاجتماع الثلاثي كان قليلاً، وتعلق بمسائل عامة، مثل مكافحة الإرهاب وتنسيق الجهود، فالواضح أن لقاء وزراء الدفاع الثلاثة كان غريباً. خلال الأسبوع الثالث من حزيران/يونيو، أوقع الثوار السوريون خسائر فادحة بميليشيات حزب الله والميليشيات الشيعية الأخرى في معارك جنوب حلب. لم تنجح الميليشيات المدافعة عن نظام الأسد في إيقاف اندفاعة الثوار في ريف حلب الجنوبي وحسب، بل وأشيع أن هذه الميليشيات اشتبكت مع قوات نظام الأسد. ولم تخف المصادر المقربة من حزب الله انتقادها للحليف الروسي، الذي لا يبدو أنه وفر غطاء جوياً كافياً في معارك جنوب حلب، ولا لقوات نظام الأسد، التي اتهمت بعدم قيامها بواجبها في ساحة القتال، على الأقل من جهة توفير الحماية بالقصف المدفعي.
في 17 حزيران/يونيو، والجدل لم يزل يتصاعد حول وجود خلافات في وجهات النظر بين إيران ونظام الأسد، من جهة، وروسيا، من جهة أخرى، كشف في واشنطن عن رسالة وقعها 51 من الدبلوماسيين الأمريكيين من كافة المستويات، العاملين أو الذين سبق لهم العمل في الملف السوري، موجهة إلى الرئيس أوباما.
في رسالتهم، غير المسبوقة، قال الدبلوماسيون الأمريكيون للرئيس أن سياسته في سوريا، القائمة على وقف للأعمال العدائية والذهاب نحو تسوية سياسية، فشلت. وقالت المجموعة الدبلوماسية ان سبب الفشل يقع في أن الرئيس لم يدعم سياسته بقوة السلاح. لا تحمل الرسالة دعوة لاجتياح أمريكي لسوريا، ولكنها عكست إدانة صريحة لسياسة استبعاد خيار استخدام القوة الجوية الأمريكية لإجبار الأسد وحلفائه على وقف المجزرة المحتدمة في سوريا والتفاوض بجدية لوضع نهاية للأزمة. بعد أيام قليلة، في 17 حزيران/يونيو، وبالرغم من أن الناطقين باسم أوباما أعادوا التوكيد على سياسته الحالية، التقى وزير الخارجية كيري بالمجموعة التي وقعت الرسالة، وخرج من اللقاء ممتدحاً إياهم.
في 19 حزيران/يونيو، وبعد عشرة أيام فقط على لقاء طهران الثلاثي، ظهر وزير الدفاع الروسي فجأة في سوريا، حيث اجتمع بالأسد (ولا يعرف ما إن كان الاجتماع عقد في دمشق أو في قاعدة حميميم، مقر القوات الروسية). وبدا أن الرئيس السوري نفسه تفاجأ بزيارة سيرغي شويغو، الذي قال أنه جاء إلى سوريا بتكليف من الرئيس بوتين. مرة أخرى، لم يرشح شيء مهم عن اجتماع وزير الدفاع الروسي والأسد، ولكن الزيارة بحد ذاتها أطلقت الكثير من التكهنات.
فهل ثمة علاقة بين هذه الأحداث المتتالية خلال أسابيع ثلاثة فقط من حزيران/يونيو؟ وأية دلالة تحملها على طبيعة التحالف الداعم للأسد وما تبقى من نظامه؟
لنبدأ برسالة الدبلوماسييين الأمريكيين. ما أوحت به الرسالة، للوهلة الأولى، أن هناك معارضة ملموسة في جسم الدولة الأمريكية (الخارجية، الاستخبارات، وربما الدفاع، أيضاً) لسياسة إدارة أوباما في سوريا. وهذا صحيح، ولا يحتاج استنتاجه لكبير ذكاء؛ فمن وقع على الرسالة مجموعة من الدبلوماسيين العاملين، المتواجدين الآن، بالفعل، في مواقع مختلفة من وزارة الخارجية.
ولكن ما هو أهم، ربما، أن إعلان هذا الموقف لا يقصد به التأثير على قرارات أوباما، فما تبقى من عمر إدارته لا يتيح تغييراً جوهرياً في السياسة تجاه أزمة بالغة التعقيد كالأزمة السورية. ما قصد بهذا الموقف هو تهيئة مناخ واشنطن لسياسة أمريكية مختلفة، عندما تحتل البيت الأبيض إدارة جديدة في كانون الثاني/يناير المقبل. هذه الرسالة، وبالرغم من بعض الافتراق في السياق والأسباب، تشبه تلك التي وجهتها مجموعة السياسيين الأمريكيين المحافظين للرئيس كلينتون بخصوص العراق، ولم تتحول إلى سياسة فعلية إلا بعد أن تولى جورج بوش الابن مقاليد البيت الأبيض. مديح كيري العلني للرسالة ومن وقعوا عليها ليس تعبيراً عن انشقاق كيري عن رئيسه، بل توكيد لما هدد به كيري نظيره الروسي علناً، وفي لقاءات ثنائية مباشرة، من أن عدم التزام الأسد بوقف النار، وإفشاله لمسار جنيف، سيؤدي إلى رفع مستوى الدعم الأمريكي لقوى المعارضة السورية، وليس تلك التي تقاتل داعش وحسب.
تدرك موسكو بالتأكيد محاذير رفض الأسد، (وحلفائه في طهران، حتى الآن، على الأقل)، التعامل بجدية مع مباحثات الحل السياسي، وأن عدم التوصل إلى تسوية اليوم، قد يؤدي إلى تسوية اسوأ في المستقبل. لم يكن انخراط بوتين المباشر في الصراع في نهاية ايلول/سبتمبر 2015 يستهدف الحسم العسكري للصراع، لأن الرئيس الروسي يعي أن مثل هذا الخيار يتطلب تورطاً عسكرياً واسع النطاق ولزمن غير محدود.
وهذا ما حرص على تجنبه، من البداية وأعاد التوكيد عليه في مارس/ آذار الماضي، عندما قام بتخفيض القوة الروسية العاملة في سوريا. هدف موسكو كان مجرد تحسين التوازن العسكري على الأرض، من أجل الحصول على شروط أفضل للتسوية. وفي حال حصلت موسكو على حل يحافظ على بقاء النظام، ويؤمن وجود حلفائها في الحكم، في صيغة تحمل صورة من الشرعية وتضع نهاية للمعارضة المسلحة، فليس هناك ما يمنع تخليها عن وجود الأسد نفسه.
بيد أن الأسد والإيرانيين أرادوا شيئاً آخر، متوهمين أن بالإمكان توريط روسيا إلى أن يستطيع النظام إعادة عقارب الساعة إلى ما قبل اندلاع الثورة السورية. ويدرك الأسد، بصورة خاصة، أن الانخراط الجاد في مباحثات جنيف، سيؤدي في النهاية إلى إطاحته من الحكم.
بمرور الوقت، وبفشل جولات المباحثات، الواحدة بعد الأخرى، تحددت خطوط الخلاف بين موسكو، من جهة، ودمشق وطهران، من جهة أخرى. وحتى في طهران، لا يمكن الحديث عن موقف واحد؛ فاللغة التي يتحدث بها روحاني وأركان حكومته، تختلف عن تلك التي يتحدث بها خامنئي والحرس (ومعهم نصر الله، بالطبع). وبالرغم من أن الغلبة، حتى الآن، هي لخامنئي والحرس، وليست لروحاني ومن يؤيده، فليس ثمة ما يضمن بقاء الموقف الإيراني على ما هو عليه.
أكدت الإنجازات العسكرية الملموسة لقوات المعارضة في جنوب حلب وجبهة الساحل، خلال حزيران/يونيو، مصداقية القراءة الروسية للوضع. فلا النظام ولا الميليشيات الشيعية التي تسانده قادرة على الحسم العسكري؛ وبدون غطاء جوي روسي كثيف ومستمر، سيعود الوضع العسكري إلى ما قبل ايلول/سبتمبر 2015، عندما كان النظام على وشك خسارة معركة الشمال برمته. على أن ليس من الواضح بعد ما إن كانت موسكو وواشنطن على استعداد لبذل جهود أكبر من أجل التقدم بصورة ملموسة في مباحثات جنيف. إن كانت إدارة أوباما قررت أن تشرف على مجريات الأزمة السورية، وحسب، إلى أن تتولى إدارة جديدة مقاليد البيت الأبيض في مطلع العام المقبل، فربما لن يعود أطراف جنيف إلى اللقاء أصلاً.
وسيكون على موسكو، خلال الشهور القليلة المقبلة، أن تبذل جهداً أكبر لإقناع شركائها في طهران ودمشق بالتعامل بصورة أكثر جدية مع مباحثات حل الأزمة، عندما يصبح استئناف المباحثات متاحاً. وربما كانت استجابة بويتن السريعة لمبادرة أنقرة لحل أزمة القطيعة بين البلدين، مؤشراً إلى أن موسكو بصدد بناء مناخ موات للمسار التفاوضي، قبل أن تصبح سوريا أزمة روسية مستديمة.