“لسنا عربًا لتقتلونا ونسكت” جملة خطها ناشطون من ذوي البشرة السوداء خلال مظاهراتهم في الولايات المتحدة الأمريكية ردًا على ازدياد مظاهر العنف والتعصب ضد السود.
أية لعنةٍ حلت على هذه الشعوب في تلك البقعة من الشرق الأوسط، يتساءل كثيرٌ من أبناء الشعب العربي على امتداد رقعة موطنهم من محيطه إلى خليجه، أيعقل أننا مازلنا نعيش عصر الانحطاط والتدهور الذي يختم حياة كل أمة مرت في سجل الحضارة الإنسانية؟!
نعم، أقول الحضارة الإنسانية التي ربما نعيش في وقتنا الحالي نسخةً مشوهة منها، خلا أنها تتملص يومًا بعد يوم من كونها إنسانية، هذه الحضارة التي توارت خلف أسماء وشعارات جل أهدافها هو تجريد ما تبقى من البشر من إنسانيتهم، فراح حملة لوائها يبدعون في ابتكار كل ما يسوغ سلوكياتهم، ويحقق مطامعهم حتى بات قانون الغاب هو السائد، والسلوك المعتمد هو سلوك القوي الذي لا يأبه سوى بالأقوياء، فلا تشغله تلك القبور التي تدوسها حوافر خيله، وهو في طريقه نحو هدفه، سعيًا إلى النيل من عدو وجد فيه نظيرًا ومكافئًا، ضمن قانون هذه الحضارة الذي اختار مبدأ القوة ركيزةً وناظمًا له.
نعم مبدأ القوة الذي جعل السلطان ينحني احترمًا لقوة القيصر يومًا، وأن يبتلع لسانه رغمًا عن أنوف أتباعه من المهاجرين والأنصار على حدٍ سواء، هو ذاته مبدأ القوة الذي جعل ذاك المنزل البيضاوي مثابةً لحكامنا يحجون إليه تباعًا ويتقاطرون على خطب ود سيده فرادى وجماعات، وهو ذاته المبدأ الذي فرض ما سُمي زورًا وبهتانًا “المجتمع الدولي”.
هذا المجتمع الذي لبس عباءة الإنسانية، وراح يُحاضر في الضعفاء عن حقوق المرأة في قيادتها للسيارة، ويستنكر جهل أولئك الضعفاء بأبسط حقوق الحيوان، تلك الإنسانية التي تغض الطرف عن طائرات القيصر، ومقاولات السلطان، هي ذاتها التي تندد براديكالية المسلم، وترى في الحجاب وخزًا لمشاعر التحضر وحرية المرأة، بينما لا تتورع تلك الحضارة ذاتها عن إيجاد المسوغات والمبررات لخنق التماثيل واللوحات التي زين بها الفاتحون جدران روما يومًا ما، فقط احترامًا لمبدأ القوة الذي جعل ذاك المعمم يمشي بخيلاء وسط تلك التماثيل واللوحات التي تحجبت وسلكت مسلك المؤمن الغيور على دينه.
هي ذاتها الحضارة الإنسانية التي يسيل لعابها طمعًا بعقودٍ سوف تبرمها مع هذا المعمم، وقد ملأت أذنيها قطنًا وطينًا كيلا يتناهى إلى أسماعها أصوات القنابل التي تمزق أشلاء السوريين والعراقيين واليمنيين من أتباع هذا المعمم، هي ذاتها تلك الحضارة التي تذرف الدموع على ضحايا “شارلي إيبدو” ومطار بروكسل والأبرياء في أورلاندو، وفي الوقت عينه تصم السمع عن مفخخات الولي الفقيه، وتسير القوافل تباعًا من طائرات وقنابل وأسلحةٍ فتاكة إلى ذاك المعمم الذي حُجبت كنوز روما الفنية احترامًا لعمامته المقدسة.
ولكن، إذا كنا نعرف ذلك كله، وأصبحت الحقائق ماثلةً أمامنا على هذا النحو السافر، ودروس التاريخ بغابره وحاضره نكاد نحفظها عن ظهر قلب، فأين المشكلة إذا؟!
ربما لا أحد يدري أين المشكلة، وكيف السبيل إلى حلها، فنحن شعبٌ محكوم بإسار التاريخ، ولا يبتغي سوى اجترار تلك الأيام، والتغني بها، منذ أكثر من نصف عقد نادى بهم اليازجي وصرخ صرخته المهولة “فقد طمى الخطبُ حتى غاصت الركب” أملًا في أن يجد أحدًا تسري فيه ولو بقيةٌ من حياة، ولكن أجداد اليازجي سبقوه فقالوا يومًا: لا حياة لمن تنادي، قد يرى البعض في تلك الكلمات حِملًا من يأسٍ وإحباط عادةً ما يرافق النتاج الأدبي في مراحل الانحطاط التي تعتري أية أمة عبر التاريخ.
لا ضير في ذلك ما دامت تلك الكلمات تروم مساءلة الواقع بعيدًا عن تهويمات الرومانسيين، والحالمين بالتغيير على صفحات الفيسبوك لا أكثر، لن تنفعنا محاباة السلطان أو “الحرد” منه حين يرغي ويزبد أو حين ينحني للقيصر أو الحاخام، كما أنها لن تجدي نفعًا كبيرًا صيحات ذاك الأمير مؤيدًا أولئك المعارضين للولي المعمم، فما دمنا محكومين بالتاريخ، ونرفض الخروج من إساره، إذًا لا بد لنا من المضي قُدمًا والحفر جيدًا في ذاك التاريخ؛ سنعرف حينذاك أنَ ملوك الحيرة لم يأمنوا يومًا على مُلكهم من أبناء ساسان، وأن أمراء بني غسان ندموا ندامة الكسعي حين أدنوا رقابهم للقيصر ذات يوم، وأن يوم حليمةَ لم يكن بسر، وأن التاريخ لا يكترث للضعفاء، ولا يتذكر سوى الأقوياء، وإلا فإن من يتهيب صعود الجبال كما رأى الشابي يومًا، لا محالة أن يندثر يومًا بين الحفر، وسيأكله الندم كما يأكل الكثيرين منهم اليوم، ولكن ولات ساعة مندمِ.