لم يكن قرار المملكة العربية السعودية المفاجئ بوقف مساعداتها للبنان مساء الجمعة 19 فبراير الماضي بالأمر السهل على الإدارة اللبنانية، لاسيما في ظل الأزمة الاقتصادية والأمنية التي يحياها لبنان في الآونة الأخيرة، مما جعله في أمسّ الحاجة لهذه المساعدات التي كان من الممكن أن تنتشله – ولو نسبيًا – من عنق الزجاجة.
وبالرغم من قسوة الموقف السعودي والذي انسحب على الشعب اللبناني كله وليس حزب الله فقط، كما صرح السعوديون، إلا أن رد الفعل اللبناني جاء هادئًا على عكس المتوقع، على أمل أن ترجع الرياض عن هذا القرار الذي اعتبرته الحكومة اللبنانية “متسرعًا وخاطئًا”، إلا أنه وبعد مرور خمسة أشهر تقريبًا على القرار لم تحرك بلاد الحرمين ساكنًا، فما كان من بيروت سوى اللعب بما لديها من أوراق.
التقارب اللبناني الروسي في الآونة الأخيرة يعكس طبيعة المشهد، فلبنان المشتعلة من الداخل أمنيًا واقتصاديًا تبحث عمن يقوم بالدور السعودي فيما يتعلق بتمويل صفقات السلاح وضخ المزيد من الاستثمارات لتحسين الحالة المعيشية المتردية، وهو ما دفع لبنان إلى فتح صفحة جديدة مع الدب الروسي، بعد سنوات من التوتر بسبب السعودية، تمخضت عن تقديم مساعدات عسكرية للجيش اللبناني، ليبقى السؤال: هل هذا التحول في الموقف اللبناني تجاه روسيا بمثابة ورقة ضغط ضد الرياض للتراجع عن العقوبات التي فرضتها مؤخرًا أم هو تغير في السياسة الخارجية لبيروت نتيجة التطورات الإقليمية الراهنة لاسيما وإن عرفنا أن هناك قنوات تواصل بين بيروت وطهران؟
العقوبات السعودية على لبنان
العلاقات السعودية – اللبنانية علاقات تاريخية قديمة، حيث كانت الرياض خير سند وداعم للشقيقة بيروت في عثراتها وأزماتها المتلاحقة، فضلاً عن الدعم السعودي المتواصل للبنان خلال العقود الأخيرة، سواء كان دعمًا عسكريًا أو اقتصاديًا، وهو ما جعل القرار اللبناني في كثير من الأحيان يصاغ داخل أروقة الديوان الملكي في الرياض.
أما على المستوى الشعبي، فكانت منطقة الخليج هي الحاضنة الأولى للشعب اللبناني، حيث يبلغ عدد اللبنانيين في دول الخليج 550 ألف لبناني، منهم 60 ألفًا من اللبنانيين الشيعة، و10 آلاف من اللبنانيين المسيحيين، مقسّمون على دول المنطقة كالتالي: 350 ألفًا في السعودية و120 ألفًا في الإمارات، و60 ألفًا في الكويت، و35 ألفًا في قطر، وهناك لبنانيون يحملون جنسيات خليجية وأجنبية لا يقل عددهم عن 20 ألفًا.
واقتصاديًا، تستقبل السعودية 26% من الصادرات اللبنانية إلى المنطقة الخليجية، التي تستحوذ على 50% من إجمالي الصادرات الزراعية والصناعية واللبنانية إلى الخارج، في حين تُشكل دول الخليج مجتمعةً 85% من الاستثمارات الأجنبية في لبنان، فيما بلغت قيمة الصادرات اللبنانية إلى السعودية ما يعادل 377.5 مليون دولار، مقارنة بالصادرات اللبنانية إلى إيران والتي بلغت 2.3 مليون دولار، كما تحتل الإمارات المرتبة الرابعة على لائحة أهم أسواق الصادرات اللبنانية، حيث بلغت قيمة الصادرات اللبنانية إليها العام الماضي نحو 352 مليون دولار، مقارنة بـ 322.3 مليون دولار في العام 2011 بارتفاع نسبته 9.2%.
وفي مساء الجمعة 19 فبراير من العام 2016 فوجئ اللبنانيون بقرار الرياض بفرض بعض العقوبات على لبنان، بسب سياسات حزب الله العدائية ضد بلاد الحرمين، حيث اتخذ الديوان الملكي السعودي بعد مراجعة شاملة لعلاقاته مع الجمهورية اللبنانية بما يحمي مصالح المملكة عدة قرارات منها:
أولاً:إيقاف المساعدات المقررة من المملكة لتسليح الجيش اللبناني عن طريق الجمهورية الفرنسية وقدرها ثلاثة مليارات دولار أمريكي.
ثانيًا: إيقاف ما تبقى من مساعدات المملكة المقررة بمليار دولار أمريكي المخصصة لقوى الأمن الداخلي اللبناني.
ثالثًا: منع السعوديين والخليجيين من السفر للبنان.
وحسب الرواية الرسمية السعودية عن الأسباب الحقيقية وراء اتخاذ هذا القرار والتي تمحورت في توتر العلاقة بين المملكة من جانب، وإيران وحزب الله اللبناني من جانب آخر، مما دفع إلى قطع العلاقات الدبلوماسية بين الرياض وطهران على خلفية الاعتداء على القنصلية السعودية بإيران، ومن ثم وقف المساعدات المقدمة للبنان.
وحسب البيان الصادر عن الخارجية السعودية لكشف ملابسات القرار، فإن المملكة وقفت بجانب لبنان في كافة المراحل الصعبة التي مر بها وساندته، دون تفريق بين طوائفه وفئاته، ورغم هذه المواقف المشرفة، فإن المملكة العربية السعودية تقابل بمواقف لبنانية مناهضة لها على المنابر العربية والإقليمية والدولية في ظل مصادرة حزب الله اللبناني لإرادة الدولة، كما حصل في مجلس جامعة الدول العربية، وفي منظمة التعاون الإسلامي من عدم إدانة الاعتداءات السافرة على سفارة المملكة في طهران والقنصلية العامة في مشهد، مشيرة إلى أن تلك الاعتداءات التي تتنافى مع القوانين الدولية والأعراف الدبلوماسية حظيت بتنديد من كافة دول العالم ومن مجلس الأمن الدولي والمنظمات الدولية الأخرى.
رد فعل لبناني “هادئ”
وفي المقابل وعلى عكس اللغة التصعيدية التي خاطبت بها السعودية والإمارات الحكومة اللبنانية، حرصت بيروت على الإبقاء على شعرة معاوية مع الجانب السعودي، واستقبلت القرار بلهجة هادئة، آملة في إعادة النظر في هذا القرار، إذ أصدر رئيس الوزراء اللبناني تمام سلام بيانًا قال فيه: “تلقينا بكثير من الأسف قرار المملكة العربية السعودية المفاجئ القاضي بإيقاف المساعدات المخصصة لتسليح وتجهيز الجيش وقوى الأمن الداخلي”.
كما عبر عن احترامه للرؤية السعودية بقوله: “إننا ننظر إلى هذه الخطوة باعتبارها أولاً وأخيرًا شأنًا سياديًا تقرره المملكة العربية السعودية وفق ما تراه مناسبًا، على الرغم من أننا ما كنا نريد أن تصل الأمور إلى ما يخالف طبيعة العلاقات التاريخية بين لبنان وبلاد الحرمين، التي نحرص على إبقائها علاقات أخوة وصداقة ومصالح مشتركة ونسعى دائمًا لتنزيهها عن الشوائب”، مختتمًا بيانه بـ: “إننا، إذ نعبر عن أسمى آيات التقدير لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وإخوانه في القيادة السعودية وأبناء الشعب السعودي الكريم، نتمنى إعادة النظر بالقرار الخاص بوقف المساعدات عن جيشنا وقواتنا الأمنية”.
كان يدور في مخيلة سلام ووزراء حكومته أن القرار السعودي ليس أكثر من رد فعل قاسٍ بسبب ممارسات حزب الله والجانب الإيراني، وأن الرياض ستعدل عن هذا القرار قريبًا، لكن وبعد مرور خمسة أشهر لم تظهر بلاد الحرمين أي مؤشرات تلطف بها الأجواء مع الجانب اللبناني، فضلاً عما تعرض له الأخير من تفاقم للأزمة بسبب تصاعد موجة العنف والإرهاب في ظل عدم إتمام صفقات التسليح التي كان من المقرر أن تمولها السعودية، فما كان من بيروت ومن باب “البراجماتيكية ” إلا أن تبحث عن مصالحها في مكان آخر، وأن تعيد النظر في أوراق اللعبة من جديد، لتجد أمامها الدب الروسي فاتحًا ذراعيه، يطرق باب التقارب بصفقات تسليح جديدة تعوض الغياب السعودي.
العلاقات اللبنانية – الروسية
تعود إرهاصات العلاقات الروسية – اللبنانية إلى منتصف القرن التاسع عشر، حيث افتتحت أول قنصلية روسية في بيروت عام 1839م، بينما البداية الحقيقية للنشاط الدبلوماسي بين الجانبين في نهاية 1943 حين اعترف الاتحاد السوفيتي باستقلال لبنان، كما بذل جهودًا حثيثة من أجل انسحاب القوات الإنجليزية – الفرنسية من لبنان، كما استخدم الاتحاد السوفييتي في عام 1946 لأول مرة في تاريخ الأمم المتحدة حق النقض دفاعًا عن استقلال لبنان واستقلال سوريا.
كما يرجع سجل الزيارات المتبادلة بين الجانبين إلى عام 1997 حيث أول زيارة رسمية في تاريخ العلاقات الثنائية من قبل رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، والذي زار روسيا أيضًا في عامي 2001 و2003.
وفي عام 1998 قام وزير الخارجية اللبناني فارس بويز بزيارة موسكو، وفي يناير عام 2002 زار روسيا نائب رئيس الوزراء اللبناني عصام فارس الذي تم تكريمه بجائزة صندوق وحدة الشعوب الأرثوذكسية، أما في أكتوبر 2003 فقد قام وزير الخارجية اللبناني جان عبيد بزيارة عمل إلى موسكو.
كما كان لروسيا دورًا محوريًا في وقف الحرب الأهلية بلبنان، إضافة لما قامت به في حرب 2006 ضد الكيان الصهيوني في الجنوب اللبناني، حيث روسيا أيدت الموقف اللبناني لدى اتخاذ القرار الخاص بالحرب في مجلس الأمن الدولي، وقدمت العديد من المساعدات الرامية إلى إعادة إعمار البنية التحتية اللبنانية المدمرة.
واستمرت العلاقات اللبنانية – الروسية على هذه الوتيرة من القوة والتعاون المشترك، إلى عام 2008، حيث تسببت الولايات المتحدة والسعودية في إفساد هذه العلاقة من خلال التدخلات والضغوط، وهو ما تجسد في رفض لبنان للهبة العسكرية التي تقدمت بها موسكو، والتي كانت عبارة عن طائرات ميج – 29، بسبب الضغط الأمريكي الذي استجاب له كل من الرئيس اللبناني حينها ميشيل سليمان، ورئيس تيار المستقبل سعد الحريري، ووزير الدفاع إلياس المر، حيث كانت أمريكا حينها لا تروق لها فكرة تنويع مصادر التسلح اللبناني، الأمر الذي دفعهم للضغط على حلفائهم في لبنان لمنع حصول لبنان على هبة عسكرية روسية، وهو ما تسبب في حدوث شرخ كبير في العلاقات بين موسكو وبيروت.
موسكو وورقة الضغط
بعد أن تيقنت بيروت تخلي الرياض عنها عسكريًا واقتصاديًا خلال الخمسة أشهر الماضية، ما كان أمامها سوى البحث عن حليف جديد يملأ الفراغ السعودي، وكانت موسكو أول قبلة للبنان بعد السعودية، وهو ما أكده شوقي بو نصار السفير اللبناني لدى روسيا.
بو نصار أكد أن بلاده مهتمة باستيراد السلاح من روسيا لمكافحة الإرهاب، حيث طلبت منظومات “كورنيت” الصاروخية ودبابات من طراز “تي-72” المضادة للدروع ومدافع ودبابات “تي 72” وذخيرة أخرى، مشيرًا أن بلاده في أمسّ الحاجة للتسلح لمواجهة الإرهاب، وتحتاج على وجه الخصوص إلى المنظومات الروسية الصاروخية كورنيت المضادة للدبابات، قائلاً: “نحن ما زلنا نجري مفاوضات مع الجانب الروسي للحصول على هذا النوع من الأسلحة، هذا مهم جدًّا، بحث التفاصيل يجري على مستوى الخبراء”.
وأعرب بو نصار عن أمل بلاده في الحصول على الأسلحة المطلوبة خلال عام واحد، كاشفًا أن القضية الرئيسية التي تتم مناقشتها حاليًّا تكمن في التوصل لاتفاق نهائي حول سعر هذه الأسلحة، علمًا بأن الجانب الروسي وعد بدراسة طلب لبنان المتعلق بخفض سعر هذه الصفقة، إضافة لطلبها الحصول على طائرات هليكوبتر، وتابع “قبل ست أو سبع سنوات روسيا وعدت لبنان بتزويده بثماني أو تسع طائرات حوامة، وحتى الآن لم يتم تحقيق ذلك”، وختم السفير اللبناني حديثه قائلًا “أعتقد أن وفدًا من لبنان سيصل إلى موسكو لتوقيع العقد، أو العكس، أي يصل الوفد الروسي إلى بيروت، وحتى الآن لا توجد تواريخ رئيسية لهذه الاتفاقية، والعمل يتم عليه”.
ومن الملاحظ أن الدب الروسي متجاوب بشكل كبير في تفعيل سبل التقارب مع الجانب اللبناني في محاولة لاستغلال حالة التوتر مع المحور السعودي – الأمريكي، لاسيما وقد تعهد بإعادة تسليح الجيش اللبناني، وصيانة معداته العسكرية، فضلاً عن عرضه المشاركة في تدريب العسكريين اللبنانيين على أيدي خبراء روس.
وعلى نفس السياق، فقد أعلنت طهران استعدادها تزويد الجيش اللبناني بالعديد من المعدات العسكرية والصواريخ والطائرات المتطورة، مساهمة منها في القضاء على الإرهاب، والعمل على إعادة الاستقرار لبيروت مرة أخرى، حيث قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية حسين جابري أنصاري، بعد أيام من إعلان السعودية قطع المساعدات عن الجيش اللبناني، إن طهران مستعدة لتقديم المساعدات للبنان في حالة استلامها طلبًا رسميًّا منها، كتعويض عن قطع المساعدات السعودية.
العديد من الخبراء والمحللين رأوا أن تخلي السعودية عن لبنان دفعها للارتماء في أحضان روسيا، وربما إيران في الوقت القريب، مما ينذر بتغيرات خطيرة قد تعيد رسم خارطة التحالفات في منطقة الشرق الأوسط، وفي المقابل هناك من توقع أن هذا التقارب مع الدب الروسي ليس أكثر من ورقة ضغط تمارسها بيروت ضد السعودية للعدول عن قرارها الأخير بشأن العقوبات المفروضة على لبنان.
وسواء كان هذا التقارب اللبناني – الروسي الإيراني بسبب تغير في السياسة الخارجية لبيروت عقب التطورات السياسية والأمنية التي تشهدها المنطقة، أو كورقة ضغط ضد السعودية، فإن الأيام القادمة – بلا شك – ستشهد مفاجآت على عدة أصعدة، قد تنعكس بشكل أو بآخر على عدد من الدول العربية، وعلاقاتها بالخليج، فضلاً عن الدور الروسي الجديد في الشرق الأوسط.