لم تمر أيام كثيرة على انتهاء بطولة اليورو الكروية لمنتخبات أوروبا التي استضافتها فرنسا على مدار شهر كامل وسط تخوفات من وقوع عمليات إرهابية، الأمر الذي زادت معه الإجراءات الأمنية المشددة تحسبًا لتهديدات أطلقها تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” باستهداف البلاد.
ولكن مرت البطولة بسلام، ووقع بالأمس ما تخوفت منه فرنسا، حيث شهدت مدينة نيس في حدود الساعة العاشرة والنصف من ليل الخميس، اعتداءً نتج عن قيام شاحنة -طولها 15 مترًا مندفعة بسرعة تزيد عن 90 كيلومترًا- بعملية دهس، استهدفت عشرات الآلاف من المحتشدين في ساحة “منتزهات الإنجليز”، وسط المدينة.
كان هؤلاء المحتفلون ومن بينهم العديد من السياح الأجانب، يحضرون حفل إطلاق للألعاب النارية التي تعقب، عادة، في كل مدن وبلدات فرنسا، الاحتفالات بعيد الاستقلال في 14 يوليو كل عام، الأمر الذي ارتفعت معه حصيلة الاعتداء إلى 84 قتيلًا وعشرات الجرحى إصاباتهم خطيرة، بحسب ما نقلت مصادر رسمية فرنسية.
لم تتبن أي جهة حتى الآن هجوم نيس بشكل رسمي، لكن الشرطة الفرنسية تقول إنها عثرت على أوراق ثبوتية باسم مواطن فرنسي من أصول تونسية داخل الشاحنة، بعد مقتله في تبادل لإطلاق النار مع عناصر الشرطة.
وعلى ذكر سؤال من يقف خلف هذه العملية، قالت صحيفة الديلي ميل إن هناك أنباء غير مؤكدة عن إعلان تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” مسؤوليته، ولكن حتى الآن المواقع الرسمية للتنظيم لم تعلن ذلك، فيما احتفت حسابات مؤيدة للتنظيم على مواقع التواصل الاجتماعي بالهجوم.
لم تكن هذه العملية الأولى التي تستهدف فرنسا بهذه الصورة وتوقع العشرات من الضحايا، حيث عانت فرنسا منذ مطلع العام الماضي سلسلة من الاستهدافات الإرهابية، آخرهم كانت ثلاثة تفجيرات استهدفت العاصمة الباريسية في نوفمبر من العام الماضي، وقعت أولها قرب استاد فرنسا الدولي في الضاحية الشمالية للعاصمة، وآخر في مسرح باتاكلان، وثالث بوسط العاصمة باريس، وقد كانت الحصلية 147 قتيلًا، وأكثر من 200 مصاب.
كل هذه التفاصيل المعلنة ليست بالجديدة، بل ربما تقدم للرأي العام في أعقاب كل حادث، أعداد الضحايا والمصابين، كيفية وقوع الحادث، تصريحات شجب وإدانة، انتظار تبني طرف أو تنظيم للحادث، ومن ثم البدء في تحميله كافة الأوزار، بدون محاولة التعرض للأسئلة الحقيقية التي تثيرها مثل هذه الوقائع.
أسئلة بدون إجابات
نقلت صحف فرنسية عن السلطات هوية المنفذ، إذ قالت أنه مواطن فرنسي من أصول تونسية يبلغ من العمر 31 عامًا، لكن حتى الآن لم تخرج الحكومة الفرنسية لتتحدث بنفسها عن تفاصيل الأمر، أومعلومات عن دوافع المنفذ وسياق حياته داخل فرنسا.
لم تجب السلطات الفرنسية من قبل في أي حادث عن سؤال ما الذي يدفع مواطنين فرنسيين يتمتعون -من المفترض- بكافة الحقوق المتساوية على الأراضي الفرنسية، نشأوا تحت كنف الثقافة الفرنسية لأن يتورطوا في تنفيذ أعمال إرهابية بهذه الصورة على مدار أكثر من حادث.
لماذا تكتفي فرنسا بإدانة ما تسميه “الإرهاب الإسلامي” عقب كل حادث دون الحديث عن سياق وجذور أسباب الظواهر المتكررة، وهو ما صرح به الرئيس الفرنسي، فرنسوا هولاند، بالفعل عقب هجوم نيس بالأمس.
عاجل | #أولاند: #فرنسا كلها تحت تهديد الإرهاب الإسلامي pic.twitter.com/nQpCpbBipT
— الجزيرة – عاجل (@AJABreaking) July 15, 2016
الواقع يقول بأنه لم تعد تأتي الهجمات من الشرق كما هو معتاد، بل إن الخطر على الدول الأوروبية أصبح داخليًا في المقام الأول، فغالبية المتورطين في الهجمات الأخيرة على دول الغرب، هم باعتراف قوانين هذه البلدان، مواطنون مولودين على أراضيها، كثير من المعلومات التي ظهرت عن سلوكهم بعد ذلك تؤكد تشربهم للثقافات الغربية في مراحل حياتهم المختلفة، ولم يعرف لهم نشاط ديني معاد للمجتمع الذي يعيشون فيه من قبل.
إذن ثمة أسئلة فشل الغرب حتى الآن في الإجابة عليها، أو تحليل آخر يرى أن هناك مشكلات داخلية في بنية المجتمع الغربي تفرز أمثال هؤلاء، ولم تتعرض لها الدول الغربية بجدية إلى اللحظة، واكتفى الساسة بإلقاء اللوم كله على مشكلة اللاجئين والهجرة، وإجابات تقليدية سهلة كتلك التي تتحدث عن الإرهاب القادم من الشرق.
ولكن يبقى السؤال وماذا عن الإرهاب القادم من الغرب؟
تصدر فرنسا بحسب الإحصائيات العدد الأكبر من المقاتلين الأوروبيين إلى سوريا والعراق، تليها بريطانيا فألمانيا، حيث يقدر عدد الذين سافروا من فرنسا للقتال في العراق وسوريا بأكثر من 900 شخص، في حين يقدر عدد الذاهبين للقتال من بريطانيا بـ 500 شخص، ومن ألمانيا بـ 400 شخص، ناهيك عن الخلايا الكامنة التي لم تستطع السفر بسبب التضييق الأمني.
وكان تقرير أعدته شركة الاستشارات الدولية The Soufan Group، ومقرها ولاية نيويورك الأميركية، في يونيو من العام 2014، قد قدر عدد مواطني الدول الغربية الذين انضموا للقتال في سوريا آنذاك بـ 2500 شخص، مشيرًا إلى أن كثيرًا من المقاتلين في صفوف تنظيم “الدولة الإسلامية” تتراوح أعمارهم بين 18 و29 عامًا.
انتبهت أوروبا إلى ذلك وبدأت في اتخاذ إجراءاتها الاحترازية، بمراقبة من تثار حولهم الشكوك، ومنعت آخرين من السفر، وحاولت التضييق بشتى الطرق على الراغبين في السفر للقتال في الشرق الأوسط.
وبالرغم من أن هذه الاستراتيجيات منعت هذا الأمر جزئيًا وحدت منه، إلا أنها فاقمت ظاهرة الإرهاب الداخلي لدى هذه البلدان، حيث وجه تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” رسائله إلى الراغبين في الانضمام إليه من هذه الدول مع عدم مقدرتهم بسبب التعقب الأمني، إلى اتباع استراتيجية أطلق عليها “الذئاب المنفردة” التي تولت تنفيذ مثل هذه الهجمات على هذا النحو من قبل أناس لا تربطهم صلات تنظيمية مؤكدة بحركات متطرفة -وإن تبنت هذه التنظيمات لتصرفاتهم- إلا أنه يظل هذا الشخص لديه البذور العدوانية تجاه مجتمعه، وكل ما يفعله أنه يضع هذه البذور في أجندة أو فكر تنظيم عنيف.
ومن ناحية أخرى لا توجد إجابات واضحة حتى الآن على ما إذا كان هناك تواطؤ داخلي بصورة ما مع هذه الهجمات المتتالية، وهو ما لم يستبعده الرئيس الفرنسي في هجوم نيس الأخير، إذ أكد أنهم يبحثون عما إذا كان هناك متواطئين مع منفذ الهجوم.
عاجل | #أولاند: نبحث في إمكانية وجود متواطئين مع منفذ الهجوم
— الجزيرة – عاجل (@AJABreaking) July 15, 2016
كما يمكن طرح المزيد من الاسئلة حول مدى كفاية الاستعدادات الأمنية الفرنسية في مثل هذا الهجوم الذي وقع في مكان به حشود كبيرة خلال احتفالات يوم الباستيل، خاصة خارج العاصمة باريس، حيث من المفترض أن تولي الحكومة الفرنسية مثل هذه الاحتفالات اهتمامًا أمنيًا خاصًا، كما حدث مع بطولة أوروبا.
هذا بالإضافة إلى احتمالية وجود فشل استخباراتي فرنسي، بعد أن كشفت لجنة برلمانية فرنسية في السابق وجود خلل استخباراتي أثناء تحليل الهجمات الماضية التي تعرضت لها فرنسا، حيث ثبت أن هناك أخطاء في جمع وتحليل المعلومات، أدت إلى عدم التمكن من منع هذه الهجمات قبل وقوعها، وهو ما يعتقد أن تكرر في حالة هذا الهجوم أيضًا.
المواجهة صعبة
رغم كل هذه الأسئلة والإجابات المفقودة لا يمكن اعتبار المواجهة سهلة في ثنايا هذا الوسط العالمي المضطرب، إلا أنه يجب التطرق إلى هذه الفرضيات بكل جدية في حال وجود رغبة لفهم ما يحدث، ومحاولة منعه في المستقبل.
على السلطات الفرنسية بالتحديد والغرب عمومًا أن يوجه هذه الأسئلة إلى داخله دون التعلق بمبررات الخارج فقط، بحيث يتمكن من معرفة السياق الاجتماعي الذي ينتج هؤلاء الأفراد حاملي المظلوميات التي تتقاطع مع أحداث الشرق الأوسط، مع تحديد المسؤوليات عن هذه الحالة الداخلية.
على فرنسا تحديدًا أن تتسائل عن مدى جدوى الصدام مع الواقع الديني الحالي في فرنسا بدعوى العلمانية، والحقيقة تقول أنها حالة عدائية. هذا الصادم الذي يساهم بشكل مباشر في عزل وتغريب آلاف الأشخاص داخل المجتمع الفرنسي، وهو ما يوفر بيئة حاضنة لأي تفكير عنيف للتخلص من هذا الشعور بالضعف والعزلة.
ويتوجب في هذا التوقيت بالتحديد النظر بجدية إلى أثر التورط الغربي في دعم الديكتاتوريات في الشرق الأوسط، حيث أن هذا الدعم أثبت فشله حتى الآن، أمام هذه الحالة العنيفة المتزايدة التي انتقلت من الشرق إلى الغرب بصورة غير مسبوقة.
صورة تظهر إحدى ضحايا #هجوم_نيس الذين ارتفع عددهم لـ80 شخصا والذي وقع قبل ساعات في #فرنسا. #PrayForNice pic.twitter.com/Fz3oGZwrys
— نون بوست (@NoonPost) July 15, 2016
كما على العالم المنخرط في محاربة التنظيمات العنيفة التي يصفها بـ “الإرهاب” أن يتحضر لمرحلة ما بعد هذه التنظيمات التي تنحصر بالفعل، فتنظيم الدولة الإسلامية “داعش” على سبيل المثال يعاني من انكماشة في كل من العراق وسوريا وليبيا بفعل الحرب المتزايدة ضده.
لكن هذا التنظيم الذي يمتلك آلاف من العناصر المقاتلة، وغيرهم من المتعاطفين حول العالم، إذا ما قرر أن يحل نفسه بفعل الضغوط العسكرية المتزايدة عليه، ويتبنى استراتيجية “الذئاب المنفردة” على نطاق أوسع بعناصر أكثر كفاءة، فلربما تكون الفاجعة أكبر، حيث أثبتت هذه الاستراتيجية التي يصعب تعقبها، أنه بأقل الإمكانيات يمكن للتنظيم أن يوقع خسائر قوية بعناصر قليلة، وما عليه سوى التبني الإعلامي، وعلى العالم أن يتجهز لهذا السيناريو من الآن بمواجهة الأسباب الحقيقة لنمو هذه الظواهر الداخلية، فالأمر لم يعد مقتصرًا على المجهود الاستخباراتي والعسكري، المواجهة يجب أن تكون داخل المجتمع من الجذور.
ويجب الأخذ بعين الاعتبار أيضًا مسألة صعود اليمين المتطرف في أوروبا بشكل عام غير مسبوق، وإدارك أنه لن يساعد سوى في نمو التطرف الداعشي واتساع نقاطه بخلق مبرراته، مهما تخيلت أوروبا أن الحل في تصعيد نبرة العداء تجاه المهاجرين واللاجئين، هربًا من الواقع.