جاءت المصالحات الدبلوماسية الأخيرة لتركيا مع كل من إسرائيل وروسيا بمثابة مفاجأة سارة للدولة التي أصبحت في الآونة الأخيرة مصدر الأخبار السيئة. وهناك أيضًا علامات على اتخاذ خطوات إيجابية مع مصر وحتى سوريا، كما أشار هذا الأسبوع رئيس الوزراء بينالي يلديريم. وكان يلدريم وعد بهذا التحول مباشرة بعد وصوله إلى السلطة في أواخر مايو الماضي، عندما حلّ محل رئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو. وأضاف يلديريم: “إننا سنزيد من عدد أصدقائنا، وسنقلل من عدد أعدائنا،” وعلى ما يبدو كان يقصد ذلك.
بطبيعة الحال، هذا التحول البراغماتي في السياسة الخارجية التركية هو خطوة إيجابية ينبغي الترحيب بها ودعمها. ومع ذلك، حكّام تركيا – أردوغان وحزب العدالة والتنمية – ينبغي أن يفهموا لماذا ابتعدوا عن الواقعية في المقام الأول. وينبغي أيضًا أن يفهموا أنَّ تركيا بحاجة ماسة للمصالحة من الداخل.
في الواقع، إنَّ الدرس الذي يحتاج أردوغان إلى تعلّمه يكمن في ماضيه الخاص. في الثماني سنوات الأولى له في السلطة (2002-2010)، اتبع أردوغان سياسة معتدلة وإصلاحية في الداخل وسياسة متواضعة وواقعية في الخارج. في صلب هذا النهج كان القضاء على مفهوم “الأعداء”. وفي كلمة ألقاها عام 2010 أظهرت روح تلك الفترة، انتقد أردوغان “تركيا القديمة” لرؤية نفسها بأنها “دولة تحيط بها البحار من ثلاث جهات، والأعداء من أربعة جوانب”. وكلما فشلت الدولة، أشاف أردوغان، وُضع اللوم على هؤلاء الأعداء المتخيّلين، وهذا هو السبب في أنَّ تركيا لم تستطع تحقيق التقدّم.
للأسف، في وقت قريب بعد الهيمنة على هيكل الدولة بشكل كامل وتدمير الضوابط والموازين، بدأ أردوغان تبني نفس السردية، وضخ المزيج الحاد من القومية والإسلامويّة. خاصة بعد احتجاجات جيزي بارك في يونيو 2013، بدأ يخبر قاعدته أنَّ العالم مليء بالأعداء الذين يتآمرون ضد بلده المجيد “تركيا الجديدة”. وأضاف أنَّ قوى المعارضة هي الطابور الخامس لهذه القوى الظلامية. وقد عملت هذه الدعاية بشكل جيّد للغاية لتعزيز القاعدة الدينية لأردوغان، لكنها لم تنقذ الليرة التركية من الغرق، وانخفاض الاستثمارات الأجنبية والسياحة أو ضعف تركيا الدبلوماسي. وبعد كل هذه الضجة، اتضح أن تركيا لا تعيش على البروباغندا وحدها.
إنّه لأمر جيّد أنَّ الحكومة بدأت تفهم هذه الحقيقة اليوم. ولكنها تحتاج لفهمها فيما يتعلق بالسياسة الداخلية كذلك. إنها تحتاج لإدراك أن ما تسبب في الطريق المسدود في السياسة الخارجية هو نفس الشيء الذي سمّم المشهد المحلي: مسار الحكومة الخاص.
بعبارة أخرى، خلال احتجاجات جيزي بارك، خرج الملايين من الأتراك إلى الشوارع للاحتجاج على أردوغان، ليس لأنهم كانوا بيادق في أيدي عصابات شائنة، بل لأنَّ أردوغان أغضبهم بتهديد أسلوب حياتهم والسخرية من قيمتهم. حركة فتح الله غولن كان لها وجود كبير في الشرطة والقضاء، ليس لأنَّ الصهاينة جنّدوا أعضائها للقيام بمهمة سريّة، ولكن لأنَّ أردوغان نفسه قدّم لهم كل ما يريدون حينما كانوا يؤيدون قضيته. كما فشلت محادثات السلام مع المتمردين الأكراد ليس بسبب طموح وتعصب المتشددين فحسب، ولكن أيضًا بسبب السياسة التركية في سوريا التي تصب في صالح الجهاديين على حساب الأكراد. المؤسسات الدولية تنتقد غياب حرية الصحافة في تركيا ليس لأنهم جميعًا من “المستشرقين” الماكرين، ولكن لأنَّ أردوغان خنق وسائل الإعلام المعارضة وخلق بيئة من الخوف.
الجدير بالذكر أنَّ هناك بعض الأصوات في حزب العدالة والتنمية هذه الأيام تعترف على الأقل ببعض من هذه النقاط وتدعو الحكومة لتسهيل المصالحة داخل تركيا أيضًا. على سبيل المثال، قال جميل جيجك، رئيس البرلمان السابق وعضو حزب العدالة والتنمية: “الآن حان الوقت لكسب الأصدقاء في الداخل“، حسبما ذكرت صحيفة حريت. كما كتب أحمد تاسجترين، الكاتب الإسلامي البارز في صحيفة “ستار” المؤيدة لأردوغان، سلسلة من المقالات تدعو إلى الاعتدال والتعاون الواسع حول القضايا الحيوية مثل التعليم. ولكن لم يمض الكثير من الوقت حتى انتقد المتشددون من أنصار أردوغان هذه الأصوات المعتدلة ووصفوها بأنها ساذجة، وضعيفة الشخصية أو حتى خائنة. ردّ تاسجترين في مقالة ساخرة تحت عنوان “نحن بحاجة إلى أعداء!”
في حال حدوث مصالحة وطنية في تركيا، يجب على أردوغان أولًا تفكيك آلة الدعاية التي أسسها في السنوات الخمس الماضية مع مهمة تشويه صورة وتخويف خصومه، حتى النقَّاد. يجب عليه أيضًا التراجع عن التسلط وإفساح المجال للتعددية بدلًا من محاولة السيطرة على المجالات السياسية والقضائية والثقافية والاقتصادية في تركيا بأكملها. كما أنّه بحاجة إلى التراجع عن طموحه في إقامة نظام رئاسي، الذي يراه الكثير من الناس في المعارضة بأنّه تحوّل إلى دكتاتورية تامة الأركان. ضد حركة غولن، يحتاج أردوغان إلى السعي لتحقيق العدالة وليس الانتقام، وإعطاء عملية السلام مع المسلّحين الاكراد فرصة أخرى.
شخصيًا، سأكون سعيدًا جدًا لرؤية أي من هذه التحوّلات، لكنني لا أعتقد أنَّ أيًا منها سيحدث. إنَّ التحوّل إلى الاعتدال في السياسة الخارجية غالبًا ما يكون مدفوعًا بمصالح أردوغان الخاصة. ومع ذلك، في السلطويّة في الداخل، فإنَّ الطبقة الحاكمة الجديدة لديها العديد من المصالح الخاصة، وكذلك قرن من الحنين إلى المحافظين لأخذ البلاد من الأتراك الأكثر علمانية. هذه هي ديناميكية قوية يصعب تهدئتها في تركيا.
لذلك، يمكن أن تتحول استعادة السياسة الخارجية التركية إلى أن تكون براغماتية، وتحلّ محل حكم استبدادي ينتهج سياسة خارجية عدائية مع حكم استبدادي ينتهج سياسة خارجية معتدلة. سيكون ذلك مكسبًا في حد ذاته، ولكنه لا يستحق المزيد من الثناء.
هل تتغيّر السياسة الخارجية التركية؟
يطلق على تقارب أردوغان مع إسرائيل وروسيا اسم “التطبيع” في وسائل الإعلام. ومن هنا، يرى البعض أنَّ السياسة الخارجية التركية تتغيّر أيضًا، استنادًا إلى افتراض تطبيع العلاقات مع إسرائيل وروسيا. ولكن إلى أي مدى يتوافق مصطلح “التطبيع” و “التغيير” مع الحالة الفعلية للدولة التركية؟ لفحص الواقع، دعونا نطرح السؤالين التاليين ونعرف ما إذا كان يمكن للمرء الإجابة عليهما بالإيجاب ام لا.
هل خطوات أردوغان تجاه إسرائيل وروسيا تدل على نهاية “سياسته الخارجية الجديدة”، التي تبلورت في عام 2009 مع تعيين أحمد داود أوغلو وزيرًا للخارجية؟
والآن بعد أنَّ أزال أردوغان داود أوغلو من منصب رئيس الوزراء وأبعده عن السياسة، هل تظهر “سياسة خارجية جديدة” أخرى؟
الحقائق المتاحة لا تبرر الإجابة بــ “نعم” على أيّ سؤال. نحن ببساطة نفتقر إلى أسباب توحي بأنَّ أردوغان قد تخلى عن “سياسته الخارجية القديمة الجديدة.” كما أنَّ الحلول المستخدمة لتخفيف حدة التوتر مع إسرائيل وروسيا خالية من أي محتوى يبشّر بظهور “سياسة خارجية جديدة.”
لاستخدام المجاز، السياسة الخارجية لأردوغان اليوم هي بمثابة سفينة جانحة، نتيجة لمغامرة طائشة بدأها أردوغان وداود أوغلو مع آمال كبيرة في عام 2009. وعلاوة على ذلك، هذا الحادث ليس بالشيء الجديد؛ فالسفينة عالقة منذ فترة طويلة.
هذه السياسة الفاشلة أدت إلى أسلمة الثقافة السياسية التركية العلمانية والجمهورية ذات التوجّه الغربي، في حين تسعى لإعادة ترتيب الشرق الأوسط تحت قيادة “تركيا الجديدة”. إنها تحمل بصمات الأيديولوجية الإسلامية، سواء من حيث المحتوى والأسلوب، والخط الفاصل بين السياسة الخارجية والسياسة الداخلية أصبح غير موجود تقريبًا. كان النظام الجديد نظامًا إسلاميًا مؤيدًا للسُنة، سواء في الداخل والخارج، ولذلك كان ضد الغرب. في الواقع، كان سحب تركيا بعيدًا عن الغرب هدفًا سعت وراءه السياسة الخارجية الجديدة. في هذا السياق، كان تعليق الإصلاحاتالمطلوبة للحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي ليس مجرد صدفة.
بعد حادثة دافوس عام 2009، أصبحت معاداة إسرائيل هي المحرك الرئيسي للسياسة الخارجية الجديدة، التي كانت محورها حركة حماس، الحليف الأيديولوجي لحزب العدالة والتنمية. بلغ هذا العداء أوجّه في حادث “مافي مرمرة” في 31 مايو 2010، ولكن هذه الذروة أثبتت أيضًا أنها طريق مسدود.
ثمّ جاء الربيع العربي لإنقاذ الوضع. شعر أردوغان وداوود أوغلو بالإثارة تجاه التمرد ضد نظام بشار الأسد في سوريا في أعقاب الانتفاضات في تونس ومصر وليبيا. ومال كلاهما إلى إسقاط النظام واستبداله بحكومة إسلامية ذات أيديولوجيا صديقة، وبالفعل اعتمد الثنائي على سياسة كانت أيضًا تفوق القدرات العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية والأكاديمية والمؤسسية والاجتماعية. انبثق سوء التقدير من الافتراض الخاطئ بأنَّ نظام الأسد سينهار في غضون أشهر قليلة، إن لم يكن أسابيع، وهذا بدوره كان نابعًا من قلة المعرفة، والمعلومات الاستخباراتية وتحليلها.
في سبتمبر 2011، في حين انحدرت سوريا في الفوضى، جعل أردوغان وداوود أوغلو رسميًا رفع الحصار عن غزة شرطًا مسبقًا لحل أزمة “مافي مرمرة” مع إسرائيل، بالإضافة إلى الاعتذار والتعويض. لقد كانا يدركان جيدًا أنهما لا يمكنهما أبدًا الحصول على رفع الحصار، ولكن ما أراده حقًا كان شيء آخر – معادلة حل أزمة مافي مرمرة بحل مشكلة غزة وحماس. وكان هذا الشرط ضروريًا من أجل إدامة حالة الأزمة مع إسرائيل، التي قدّمت الوقود السياسي لحُلمهم بالقيادة في كتلة من الأنظمة المستوحاة من الإخوان تشمل تونس وليبيا ومصر وفلسطين وسوريا وتركيا.
ولكن كل هذا أصبح من الماضي الآن. أردوغان لم يعد بحاجة لإدامة الأزمة مع إسرائيل، نظرًا لأنَّ انقلاب السيسي في مصر قد دمّر حُلمه باتحاد الإخوان وحرب بالوكالة في سوريا وأثبت أنّه لا يمكن تحقيقه. ولم يكن التدخل العسكري الروسي في سبتمبر عام 2015 سوى إعلان هزيمة لا رجعة فيها لأردوغان.
هذه هي الطريقة التي انتهت بها تركيا أردوغان وحيدة ومعزولة في الشرق الأوسط. محرومة من قنوات الحوار، وعاجزة عن وضع سياسة جديدة ولا مكان فيها للحفاظ على سياستها القائمة بالفعل، لقد كانت تركيا في حالة جمود تام.
لذا، فإنَّ التقارب مع إسرائيل وروسيا هو مجرد محاولة لتحريك السفينة العالقة مرة أخرى. ومع ذلك، تظل مناورات تكتيكية تهدف إلى السيطرة على الأضرار. ليس هناك ما يشير إلى أن تغييرًا جذريًا في السياسات يحدث في تركيا. قراءة حُجة “التغيير” من خلال سلسلة من القيّم والمبادئ والجهات الفاعلة لا يدع مجالًا لأي استنتاج آخر.
ما الذي يحدث في الواقع؟ أصبحت صفقة إسرائيل ممكنة لأنَّ تركيا تخلت عن شرط رفع الحصار البحري على قطاع غزة. من الناحية الفنية، قدّم أردوغان تنازلًا لإسرائيل، ومن جانبها قدّمت إسرائيل اعتذارًا كما أنها ستعوّض أسر الضحايا. سيعمل الجانبان على تبادل السفراء. وفي الوقت نفسه، أرسلت تركيا مساعدات إنسانية إلى قطاع غزة، عبر ميناء أشدود الإسرائيلي، تحتوي على مواد تسمح بها إسرائيل.
أيًا من هذه الأمور تشير إلى أنَّ العلاقات التركية الإسرائيلية هي على مسار التطبيع؛ إذ يتطلب التطبيع إقامة الحد الأدنى من الثقة المتبادلة. وهناك حاجة إلى مأسسة التعاون الاقتصادي والدبلوماسي والعسكري وتحديثه. كبح جماح معاداة إسرائيل في تركيا، التي أصبحت جزءًا من ثقافة سياسية جديدة في البلاد، غالبًا ما يقع على الحدود مع معاداة السامية، وهي أيضًا شرط أساسي للتطبيع.
عندما يتعلق الأمر بروسيا، يتطلب التطبيع أكثر من مجرد اعتذار تركي وتعويض عن الطائرة التي أسقطتها تركيا. هذه الأمور يمكن أن تضمن عودة بعض السياح الروس، بطبيعة الحال، ولكن ستبقى العلاقات الاقتصادية والسياسية غير مستقرة. لذلك، فمن أجل تطبيع حقيقي، ينبغي إجراء مراجعة واضحة وأساسية لسياسة تركيا في سوريا، بما في ذلك وقف الدعم التركي للجماعات الجهادية، واستعادة السيطرة على الحدود وصراع غير مشروط ضد تنظيم الدولة الإسلامية. لقد كانت سياسة تركيا في سوريا هي القضية الجوهرية في التدخل الروسي في سوريا. وبالتالي، ينبغي عدم توقع أي تطبيع ما لم يتم إلغاء هذه السياسة بشكل كامل. وبالرغم من وجود بعض الإشارات في هذا الشأن، لا يوجد ما يدل على وقف دعم تركيا للجهاديين.
وبعد، أردوغان لا يغيّر سياسته الخارجية، إنّه يعيد هيكلتها فحسب. ولذلك، فإنَّ تحريك سفينة السياسة الخارجية ليست سوى محاولة لإعادة هيكلة أجندته الإسلامية الموالية للسُنة.
ما تحتاجه تركيا ليست إعادة هيكلة ولكن إعادة صياغة لسياستها الخارجية – إعادة برمجة من الألف إلى الياء – وهذا يعني تفكيك السياسة الخارجية الإسلامية والطائفية الشخصية للغاية، والاستعاضة عنها بأخرى علمانية تعتمد على مؤسساتية وزارة الخارجية ومشاريع قيّم الحداثة في الشرق الأوسط، مثل حقوق الإنسان والديمقراطية. ولكن مع بقاء أردوغان في السلطة، لن تتحقق أي من هذه التغييرات.
المصدر: إيوان 24