مرّت عقود عديدة مذ كانت بريطانيا إمبراطورية عظمى لا تغرب عنها الشمس (وربما يضيف شخص آخر كإمبراطورية لا يجف فيها الدم)، ولكن حكومة صاحبة الجلالة اليوم لا تزال تحتفظ بشيء من التأثير الكبير على الشؤون العالمية، وذلك بفضل المقعد الدائم في مجلس الأمن الدولي، والاقتصاد (خامس أكبر في العالم، على الأقل حتى تأثير خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي على الجنيه الأسترليني)، والجيش و”العلاقة الخاصة” مع القوة العظمى التي نجحت على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي (أمريكا).
على هذا النحو، فإنَّ التغيير الذي حدث في 10 داوننغ ستريت من المحتمل أن يُحدث بعض الفارق في جميع أنحاء العالم، وخاصة منطقة الشرق الأوسط، حيث تمتلك بريطانيا أعمالًا تجارية بمليارات الدولارات، وأطلقت ما لا يقل عن ثلاث حملات عسكرية في العقد الماضي (بما في ذلك واحدة، ضد داعش في العراق وسوريا، لا تزال جارية حتى الآن). ومع تعيين تيريزا ماي كرئيسة للوزراء ورئيسة لحزب المحافظين، هناك سؤال يدور حول سياستها الخارجية ورؤيتها في الشرق الأوسط.
الإجابة المختصرة هي أنها لا تملك أي رؤية تجاه الشرق الأوسط. طوال مسيرتها السياسية التي تمتد لتسعة عشر عامًا، كان تركيزها قاصرًا على الداخل، الامر الذي يتناسب مع الفترة الطويلة التي قضتها كوزيرة للداخلية لأكثر من نصف قرن. كثيرًا ما توصف تيريزا ماي بأنّها ليست مؤدلجة، ولها عدد قليل من التصريحات العلنية في الشؤون الدولية لكنها لا توضح فلسفة متماسكة لها أساس قوي. في مجموعة الملامح عن حياة وشخصية ماي التي نشرتها الصحافة البريطانية منذ تعيينها، لم يتم الحديث عن توجهاتها في السياسة الخارجية.
وقال كايل أورتن، زميل باحث في جمعية هنري جاكسون في لندن: “لم تُظهر ماي أي علامات خاصة من الاهتمام بمنطقة الشرق الأوسط”.
وهذا لا يعني أنها كانت غائبة تمامًا عن عملية صنع القرار في السياسة الخارجية. في الواقع، باعتبارها نائبة برلمانية صوّتت ماي باستمرار لصالح كل الجهود العسكرية المقترحة منذ عام 2003، بما في ذلك غزو العراق في تلك السنة، والتدخل في ليبيا عام 2011، وغارات عام 2013 ضد النظام السوري لاستخدامه الأسلحة الكيميائية (التي فشلت في الحصول على موافقة برلمانية عامة)، والحملات الجوية لعاميّ 2014 و2015 ضد داعش في العراق وسوريا. ولكن من غير الواضح إلى أي مدى استندت هذه التصويتات على قناعات تدخلية قوية، في مقابل الولاء البسيط لاتجاهات الحزب.
وأوضح أورتن: “أعتقد أنّه ليس التزامًا خاصًا بالتدخل العسكري. إنّها فقط لم تشعر بالقوة الكافية للمقاومة.”
ومع ذلك، في كلمة لها في مؤتمر حزب المحافظين العام الماضي، قدّمت ماي لمحة نادرة عن تفكيرها الشخصي بشأن سوريا. وقالت: “إنها حرب أهلية تتجاوز الصراعات الأخرى في الشرق الأوسط في همجيتها ووحشيتها وسفك الدماء”. وأضافت: “إنَّ قوات بشار الأسد ترتكب جرائم حرب على نطاق صناعي، وتستهدف المدنيين عمدًا وتسمّم مواطنيها بالأسلحة الكيميائية “، في حين أنَّ تنظيم داعش “يشارك في برنامج التطهير العرقي والقتل الجماعي لجنود العدو، والاغتصاب والعنف الجنسي الممنهج وأعمال الخطف والقتل.”
وأردفت ماي: “هناك لاعبون آخرون في هذه الحرب الأهلية المروّعة مثل حزب الله، وجبهة النصرة والعديد من الميليشيات الجهادية الأخرى المدعومة من قِبل رعاة أجانب، من بينهم إيران وروسيا، تشارك في الغارات الجوية ضد المدنيين والمقاتلين المناهضين للحكومة” باعتبارهم الداعمين الرئيسيين لنظام الأسد.”
في السياسة الرسمية، على الرغم من ذلك، لم تعد ماي تؤيد العمل العسكري ضد الأسد، قائلة: “من السهل للغاية القول إنَّ هناك تدخلًا واحدًا سيؤدي إلى نهاية مفاجئة للقتال”. وبدلًا من ذلك، “الدول التي ترعى الجيوش والميليشيات المختلفة يجب أن تجلس على طاولة المفاوضات، مع حصر الضربات الجوية على “إرهابيّ” داعش.
“الإرهاب، في الواقع، قد يكون الجبهة الوحيدة في السياسة الخارجية التي يمكن أن تزعم ماي أن لديها خبرة كبيرة في هذا المجال. لقد أجرت عدة لقاءات في دول الشرق الأوسط معنية إلى حد كبير بالجهاديين المتشددين، طوال فترة توليها منصب وزيرة الداخلية، حيث كانت ترؤس اسميًا جهاز الاستخبارات البريطاني “ MI5″ بين الأجهزة الأمنية الأخرى. في عام 2012، سافرت ماي إلى الأردن للتفاوض على ترحيل أبو قتادة الفلسطيني من بريطانيا. وفي عام 2015، زارت تونس بعد أيام من الهجوم على منتجع سياحي في سوسة أسفر عن مقتل 30 من البريطانيين.
كما حافظت ماي على علاقات مع حلفاء بريطانيا في الخليج وإسرائيل. في عام 2014 وقّعت اتفاقية سريّة وغامضة للتعاون الأمني مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن نايف خلال زيارة غير معلنة إلى المملكة العربية السعودية. وزارت قطر في العام نفسه، حيث يقال إنها ناقشت قضايا متعلقة بالتجارة والأمن مع المسؤولين ومن بينهم الشيخ عبد الله بن خليفة آل ثاني. وبالإضافة إلى ذلك، أشادت الصحف الإسرائيلية من صحيفة هآرتس إلى صحيفة جيروزاليم بوست بماي واصفةً إياها بأنها “صديقة إسرائيل”، مشيرةً إلى الزيارة التي قامت بها لإسرائيل عام 2014، التي تعهدت بعدها بــ “الدفاع دائمًا على حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها” (في حين أنّه وفق نص وزارة الخارجية، أضافت “لن يكون هناك سلام أو عدالة دائمة في المنطقة حتى يتمكن الشعب الفلسطيني من التمتع بحقوقهم المدنية الكاملة”).
بصفة عامة، لا تبدو السياسة الخارجية الساحة التي ستترك فيها رئيسة الوزراء البريطانية الجديدة بصمتها. ومع ذلك، ينبغي على القادة الأجانب التفكير جيّدًا قبل اختبارها. في حين عارضها كينيث كلارك من حزب المحافظين الحزب الأسبوع الماضي، ووصفها بأنها شخص “لا يعرف الكثير عن الشؤون الخارجية”، وصفها أيضًا بأنها “امرأة يصعب التعامل معها.”
وردت ماي بهدوء تام: “إن الشخص التالي الذي سيكتشف ذلك هو رئيس المفوضية الأوروبية، جان كلود يونكر”.
المصدر: ناو اللبنانية – ترجمة: إيوان 24