“أول مرة أرى هذه الدماء خارج بلادنا”، “الواحد أول مرة غليله يتشفى في الناس دي”، “يستاهلوا زي ما عملوا في الجزائريين”، “مذابح بمذابح”، “مسلم يموت قباله 100 خنزير من الكفرة دول”، هذا غيض من فيض مما قيل تعليقًا على حادثة نيس المؤسفة التي وقعت في فرنسا عشية احتفالات اليوم الوطني.
حالة من الشماتة والفرح بالدماء والقتل والأشلاء، فرح ممزوج بالغل والكره والشره، حالة أراها غير طبيعية ولا مبرر لها، أشعر أن إنسانيتنا أصابها العطب والعفن، نفرح في موت وأشلاء لإناس أقل ما يقال عنهم إنهم لا ناقة ولا جمل لهم في كل هذا.
قالي لي أحدهم: لا تقل لي إنهم ليس لهم ذنب وإنهم أبرياء، هذا ثمن ما يفعلونه بسوريا واليمن ومصر وفلسطين والعراق وبورما والشيشان وكل دول المسلمين، وأيضًا لهم ذنب أو ليس لهم ذلك هذا ليس المهم، المهم أنه انتقام والسلام .
تحديد البراءة هنا من عدمها هو الأساس، وليس أمرًا هامشيًا، من قال لك إن هؤلاء القتلى يستحقون القتل؟ ألأنهم فرنسيون؟! هناك من القتلى المسلم الفرنسي الذي خرج محتفلًا ولم يكن له علاقة بقتل هذا أو ذاك، هناك العربي التونسي أو الجزائري الذي يعمل في هذه البلاد وحصدت روحه آلة القتل هذه، بل منهم الفرنسي الذي لا يوافق على سياسات بلاده ويعترض عليها ويتعاطف مع قضاينا تعاطفًا إنسانيًا، من أين حكمت على هؤلاء بالذنب والقتل؟ كان أولى بهذا الدهس أن تدهس جنديًا فرنسيًا يقاتل في أفغانستان أو العراق، أو روسيًا يقصف حلب وحماة ودير الزور، أو إيرانيًا يقصف اليمنيين بالكاتيوشا في تعز ومأرب وأبين.
وإن كان لفرنسا مذابح في مستعمراتها فتلك بتلك كما تقول، فكل الدول التي كانت لها مستعمرات ارتكبت مذابح، حتى الفترة العثمانية ارتكبت الدولة فيها مذابح بحق معارضيها، بل وتاريخنا مليء بمذابح المعارضين منذ الدولة الأموية وحتى الدولة المملوكية، فلو طبقنا مبدأك هذا لوجب على السعوديين أن يُقاتلوا المصريين لأن إبراهيم باشا ابن محمد على قهر دولتهم الوليدة في الدرعية وارتكب في حقهم المذابح.
الأمور لا تسير بهذه الطريقة أبدًا، ولو كنت تظن أن بأفعالك هذا تخيفهم وتبعدهم عن مهاجمة بلادنا فأنت واهم، منذ أن ظهرت فكرة هذه العمليات الخاطئة هل أدت لتراجع ما في سياسات هذه الدول؟ بل على العكس تمامًا، اتخذ ساسة هذه الدول هذه العمليات مطية لزيادة مكاسبهم في بلادنا.
أنا لا أحلل سبب هذه العمليات، فسببها معروف وهرس درسًا وقولًا وخُطبًا ومحاضرات، وقد تكون عمل إجرامي لشخص مضطرب نفسيًا، أو لديه مشاكل أُسرية، أنا أتكلم عن حالة الإنسان العربي الذي يتألم لقتلاه ويتشفى في قتلى غيره، هذا الألم الأيدلوجي القومي الديني ليس ألمًا إنسانيًا بل هو ألم انتقائي.
الإنسان السوي يتألم لدماء الأبرياء أينما كانوا، لا يفرق بين قتلاه وقتلاهم، ليس لديه نحن وهم، حرمة الدماء واحدة، هذا من طباع البشر تأثرهم بالدماء وحزنهم على القتيل، لكن أن تتغير طباعنا وتصبح الدماء مسارًا للشماتة والتشفي فهذا ما لا أرضاه لبني جلدتي.
هؤلاء القتلي الفرنسيون مواطنون عاديون لا علاقة بسياسات بلادهم – إذا ثبت أن لهذا العمل دوافع فكرية أيدلوجية -، وإن كانت فرنسا من أقل الدول الآن تورطًا في دماء العرب، فمن يقصف السوريين ليست طائرات فرنسا بل طائرات روسيا، من يدعم الحرب في العراق إيران وأمريكا ليست بعيدة عن المشهد، من دعم الانقلاب في مصر مباشرة ليس فرنسا وحدها بل كل دول أوروبا عبر السيدة كاثرين أشتون، فالأمر يشمل كل بلاد العالم الكبرى، الكل يبحث عن مصالحه في منطقتنا، وهذا من حقهم، فالخطأ عندنا لأننا نمنا عن مصالحنا، وتحولنا لمفعول به مطلق، لا حول له ولا قوة، بل هو يتبع الكبار أينما ذهبوا، حتى ولو كان ضد مصالحهم ومصالح بلادهم .
لماذا في مثل هذه المواقف تضعوننا بين شقي الرحي؟ إما أن نعتذر ونغير بروفايل الفيسبوك لصورة علم فرنسا، أو نفرح بالقتلى والجرحى والمدهوسين تحت عجلات السيارة، لست ملزمًا بخياراتكم هذه، أنا أرى ما حدث جريمة في حق بشر قبل أن يكونوا فرنسيين، بشر خلقهم الله لهم حق الحياة وليس لأحد أن ينزع منهم هذا الحق إلا خالقهم وفقط، ولست مضطرًا لأعتذر لأحدهم لأنني لم أقتل أحدًا، ولم أرض ولن أرضى أن يُسفك دم إنسان – مهما كان – إلا بجرم ارتكبه يقينًا ويستحق عليه العقوبة.
هذه السادية التي أراها عند بعضنا لا أجد لها مبررًا لا عقلًا ولا منطقًا ولا عاطفةً، فالعقل يقول إننا أكبر الخاسرين من كل هذا، وسيُضيق على مسلمي فرنسا، وسيتضرر أهلنا في المغرب العربي من التضييق عليهم في باب الهجرة والإقامة والعمل.
والمنطق يقول إنه ليس بهذه الطريق سنعيد حقنا في سوريا وفلسطين وباقي بلادنا، إن كنت تظن يا سيدي أنهم سيخافون ويهربون ويبعتدون عن بلادنا، فأنت واهم أو ساذج، بل على العكس سيغالي ساسة أوروبا في هذا الأمر ويكسبون من ورائه شعبية على حسابنا.
فرنسا كمثال: هناك تنافس شرس بين أولاند رئيس فرنسا الحالي رئيس الحزب الاشتراكي وبين مارين لوبان رئيسة الجبهة الوطنية ذات التوجهات اليمينية والمعادية للمهاجرين وللمسلمين، سنرى أولاند يرفع سقف الحديث – وهذا ما حدث – في الحديث عن الإرهاب الإسلامي كما قال حتى لا تزايد عليه مارين لوبان في هذا الأمر، وتكسب على حسابه تأييد يتحول لمقاعد في الانتخابات البرلمانية وأصوات في الانتخابات الرئاسية.
عاطفةً فأنا كإنسان أرفض هذه الدماء، فهي دماء أبرياء لا حول لهم ولا قوة، لا يعرفون عن بلادنا الكثير كما نظن، فهؤلاء لا يدرون ما رابعة وما حدث فيها، وهذا تقصيرنا لا ذنبهم، لا يعرفون عن سوريا سوى داعش واغتيالاتها ومتفجراتها وإعداماتها، عن فلسطين لا يعرفون الكثير، فآلة الميديا والإعلام التي تسيطر عليها اللوبيات الصهيونية تضع الفلسطيني مجرمًا قاتلًا، والصهيوني مغلوبًا على أمره مسالمًا.
الدماء البريئة محرمة إنسانيًا قبل أن تكون دينًا وشريعةً، وهل جاءت الأديان إلا لحماية كل الأنفس والأرواح مهما كان اعتناق حامليها، أشعر بالأسى والقهر والضعف على حال أهلي في سوريا وفلسطين والعراق واليمن ومصر وكل بلادنا، ولكن كل هذا لا يُعمي قلبي ويطمس عقلي ويمحو إنسانيتي، فأشمت وأفرح في دماء بشر، لا ذنب لهم إلا أنهم تواجدوا في مكان ما ليحتفلوا بعيدٍ ما.