وقت كتابة تلك الكلمات بجوار مبنى جريدة ” حريت” Hurriyet التركية في أنقرة، كانت أصوات الانفجارات تصم الآذان، لقد كان الوضع مبهم قليلًا عندما تم غلق جسر البوسفور في إسطنبول، إلا أنه عندما سمع الصحفي عبدالقادر سيلفي التركي أصوات الإنفجارات الشديدة أثناء ما كان منتظرًا في حي جولباشي بأنقرة، علم أن الوضع قد فاق الحدود، وأن المسألة جدية الآن، وأنه من الممكن جدًا أن بكون انقلابًا عسكريًا.
يروي عبدالقادر سيلفي شهادته الخاصة على موقع صحيفة ” حرية” التركية قائلًا بأنه علم أن الأمر لم يكن مجرد محاولة عندما شاهد مروحيات الانقلابين تحتل السماء فوق رؤوسهم، وعندما علم بأمر اعطاء الإذن لمركز الاستخبارات التركية بإطلاق النار، يقول سيلفي بأنه هنا علم أنه يجب أن يرى ما يدور بنفسه، واتخذ قراره بشق طريقه إلى مقر الجريدة في أنقرة، رغم ما يشوبه هذا القرار من مخاطر وتعريض حياته للخطر.
في أول مرة في تاريخ تركيا، يخرج الشعب التركي لمواجهة الانقلاب بنفسه وبأجساده المعزولة في مواجهة الرصاص الحي والدبابات، يقول سيلفي بأنه هذا لم يحدث من قبل في تاريخ تركيا المعهود بالانقلابات، وهو ما يمكن وصفه بأنه الجواب الواضح الوحيد الآن في الأحداث التركية الأخيرة، الذي أعلن رفض الشعب التركي لهيمنة انقلاب عسكري على الإرادة الشعبية، ورفضه لسلب إرادته وهدم النظام الديموقراطي في البلاد، ليعلن الشعب بنفسه، حفاظه على مسيرة تركيا الديموقراطية.
لم يكن الشعب التركي وحده هو صاحب الديموقراطية في هذا اليوم، بلا تآلفت لأول مرة الأحزاب المعارضة مع حزب العدالة والتنمية، على الرغم من التوجهات والمصالح الحزبية المختلفة، من أجل مواجهة محاولة الانقلاب على النظام الديموقراطي في البلاد، لتشارك الشعب التركي في أحقية الديموقراطية، لتكون هي الأخرى أحد أصحاب الديموقراطية، التي خرجت في الشوارع من أجل قمع الانقلابيين.
أصابت الديموقراطية التركية ضربة ضخمة بالأمس، قامت بها ما أسمته السلطات التركية الرسمية بأنه كيان وتنيظم مواز يترأسه فتح الله جولن المقيم بالولايات المتحدة الأمريكية، ووصفه رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم بأنه زعيم لعصابة انقلابية إرهابية، تلقت أفرادها الخائنين في تركيا التعليمات والأوامر من بنسلفييينا ليقوموا بتنفيذ محاولة انقلابية وصفها رئيس الوزراء كذلك بأنها نوع من الإرهاب بعد أحط من إرهاب حزب العمال الكردستاني.
فتح الله جولن
” الانقلاب هو الانقلاب، والانقلابيون هم الانقلابيون “
كان العنوان السابق للصحفي أومور تالو في موقع جريدة “خبر ترك” التركية يقول فيه أنه كتب ذلك العنوان بالأمس في أحداث الانقلاب العسكري في مصر، ويشاء القدر اليوم أن يعيده، ولكن هذه المرة مشيرًا إلى وطنه الأم، بعدما أدخلت فرقة متمردة من القوات المسلحة التركية من تبقى من الجيش والحكومة التركية في مأزق الحرب الداخلية كما وصفها الصحفي أومور تالو في تقريره عما حدث في تركيا بالأمس.
تابع تالو أن ما جد في هذا السيناريو هو الكيان المواز الذي تتحدث عنه السلطات التركية، وهو ما يتمثل في في جماعة فتح الله جولن، فعلى مدار السنوات شهدت تركيا انقلابات كان بعضها يتمحور حول قضايا دينية وعرقية، إلا أن هذه المرة يأتي ذلك التنظيم الموازي ليضع تركيا على شفا حرب أهلية أو حرب داخلية.
” مهما كان نظام الحكم ضد الديموقراطية في البلاد، فإن مسألة إعادة الديموقراطية للحكم عن طريق انقلاب عسكري هي محض نكتة، ولهذا أقولها وسأكررها، أنا ضد الانقلاب، أنا ضد الانقلاب، أنا ضد أي نوع من أنواع الانقلابات، أي نوع من أنواع الظلم، أي نوع من أنواع سلب الإرداة بالقوة، وأي نوع من أنواع الضغط العسكري، وأي نوع من أنواع الإستبداد”
يرى الكاتب أومور تالو في تقريره بأن أكثر من ظلم المسلمين هم المسلمون أنفسهم، وهذا ما نراه في سوريا والعراق وأفغانستان و باكستان، وحتى هناك في تركيا، قال هذا مشيرًا إلى أعداد الضحايا التي ارتفعت إلى 90 ضحية قتلت في أحداث محاولة الانقلاب العسكري بالأمس، راح ضحيتها العديد من النساء والأطفال، كان منهم الكثيرات من المحجبات والمتدينات، وهو ما يثبت نظريتة الكاتب فيما يقول بأن ما يحدث من المسلمين تجاه بعضهم يستحق العقاب الشديد، ليس من أي ملة أخرى، بل من أنفسنا.
دبابات الانقلابيين في شوارع إسطنبول بالأمس
في صحيفة الناطق” Sözcü” التركية علق الكاتب أمين تشوالشان بأن ما حدث كله كان تسلسل ناتج من مسلسل السياسة الخارجية التركية التي وصفها بالخسيسة، بداية من التصريحات عالية الصوت والصراخ والعويل على ما يحدث في الانقلاب العسكري في مصر، ومناوشته مع روسيا بإسقاطه للطائرة الروسية إلى مناوشاته مع الولايات المتحدة الأمريكية وتصالحه الأخير مع إسرائيل، ولا ننسى من الأمر سياساته الخاطئة في الأزمة السورية، والتي ما دومًا تبدأ تصريحاتها باسم الله وتنتهي كذلك باسم الله، ومحاولته المستمرة في خسارة مكانة تركيا المحترمة بين السياسات الخارجية، بالإضافة إلى خسارة ملايين الدولارات وأكثر نتيجة لمسلسل السياسات الخارجية الخاطئة.
ترى الكاتبة التركية نهال بينجسو كارجا في تقريرها عن ما حدث في صحيفة حرية بعنوان ” اتركوا ذلك العند، لا أحد يستطيع أن يقوم بانقلاب فوق إرادة الشعب “، بأن العديد من المؤسسات الحكومية والإعلامية أثبتت ولائها للدولة التركية، وحرصها على النظام الديموقراطي بنجاحها وتماسكها في ظل الساعات العصيبة التي عاشتها البلاد، وهو الوقت الذي أثبتت فيه عدم ترجيح المصالح السياسة، ولا استغلال الأزمات، كل ذلك من أجل المحافظة على النظام الديموقراطي، والذي خرج الشعب من أجله في الشوارع حماية له، الكل تماسك، و هذا هو كل ما يهم في رأيها.
ما حققه الشعب بالأمس كان درسًا قاسيًا لكل من أراد المساس بالنظام الديموقراطي التركي، لقد كان الشعب التركي غاضبًا للغاية، وثار كالثور الهائج في وجه كل من أراد أن يسلب منه إرادته، وهذا ما جعل من تلك القوات التراجع والهروب في المشهد الذي شاهدناه كلنا أثناء هروبهم من المطار بعد أن كانوا قد استولوا عليه.
ما حدث بالأمس كان إثبات لفشل فكرة استخدام حل القوة العسكرية، أو المعارضة من جهة أخرى من أجل تسوية السلطة السياسية في البلاد، وذلك لان الكل بإختلاف توجهاته يريد سيادة القانون، ويريد تحقيق المثل الأعلى للكرامة الإنسانية، ونحن نعلم أن ذلك لن يحدث إلا بإذن الأمة أولًا.