عندما ظهر أردوغان على المكالمة المرئية عبر “فيس تايم” يدعو الشعب للنزول إلى الشوارع تذكرت دعوة الرئيس المصري السابق محمد مرسي المشابهة، وضعت يدي على قلبي لأن الساعات الأولى من الانقلاب وقبل ظهور أردوغان كانت تشي بسقوط الدولة التركية تماماً، سيطرة الانقلابيين على رئاسة الأركان وعلى التلفزيون الرسمي وعلى بعض المطارات وبعض الطرق الرئيسية وغيرها، كل هذا جعل الخوف يتملكني لأنني تصورت الدولة التركية تكرر سيناريو قديم عانت منه عقوداً وتعود إلى الحقب المظلمة مرةً أخرى، تعود إلى العصر الذي نعيشه في عالمنا العربي من انقلابات وفوضى سياسية ونحن الذين كنا نظن أن تركيا تجاوزت هذه المرحلة تماماً
هي ساعات فقط من الفوضى أعقبتها تلك المكالمة المرئية التي خرج فيها أردوغان مندداً ومتوعداً وداعياً الشعب إلى النزول إسماعاً لصوته وتأكيداً على رفضه لحكم العسكر، وأردوغان يعرف مكانته ومنزلته عند الشعب التركي، فما لبث الشعب أن لبّى النداء وبدأت المساجد بالأذان لدعوة الناس للنزول وحماية وطنهم فنزل الناس بمئات الآلاف بل بالملايين في كل محافظات الجمهورية الرئيسية، حتى في مدن تعتبر من معاقل المعارضة كإزمير مثلاً نزل الشعب بأعداد غفيرة، ووقف الناس أمام الدبابات والعساكر في صور شاهدها العالم أجمع أمس، بل إن البعض قام باعتقال هؤلاء العساكر وتسليمهم للشرطة بأنفسهم! بالفعل كانت ليلة الأمس ملحمة بطلها الشعب التركي
هناك عدة دروس مستقاة مما حصل في تركيا أمس، أولها ربما أن هذا الوعي الشعبي عالي المستوى تضمنُ أنه من المستحيل بما كان أن يقبل هذا الشعب العظيم أن يُؤخذ غدراً أو أن يُحكم قهراً، أثبت الشعب التركي بالأمس أنه صاحب الكلمة الأولى في تركيا وأنه حين انتخب أردوغان رئيساً وحزب العدالة لتشكيل الحكومة فإنه كان يعي ما يفعل، وأن الديمقراطية هي الخيار الوحيد لهذا الشعب
مما نستفيده كذلك مما حدث أمس هو تغليب مصلحة الدولة العليا على الخلافات الشخصية، فمواقف رؤساء الأحزاب المعارضة التي رفضت بالجملة هذه المحاولة الغادرة هي أدلّ دليل على ذلك، ومثل هذا الموقف الوطني لا تجده في كثيرٍ من الدول ولا في كثيرٍ من المجتمعات، أن يقف من يعارضك معك في سبيل مصلحة الوطن العليا هو أمرٌ غاية في الإخلاص في سبيل الوطن والعلَم
من الدروس المستقاة كذلك هو موقف غالب قيادات الجيش الرفيعة التي أكّدت أن الجيش التركي لن يتورط في هكذا محاولة وأن عصر الانقلابات في تركيا انتهى، وهو ما يجعلنا ننظر بعين الإعجاب لهذه القيادات التي ليس لها أي مطامع في الحكم والتي تعرف ما هي مهمتها جيداً وتعمل في نطاق اختصاصها دون التدخل في إدارة شؤون البلاد وهو الأمر الذي تتصف به كل جيوش العالم القديرة
ومما استفادت منه تركيا بعد هذه المحاولة ما ذكره الرئيس أردوغان أمس وهو أن الخلايا النائمة في الجيش والدولة التركية والتي كانت تتبع للتنظيم الموازي “فتح الله غولن” ظهرت تماماً وعُرفت هوياتها، فما حدث أمس كشف الأوراق وسلّط الضوء بشكل كبير على “غولن” الذي أتوقع أن تنخفض شعبيته كثيراً في تركيا بعد ما حصل أمس، وهذا كذلك من الفوائد العظيمة التي استفادتها تركيا
أضف إلى ذلك أن تركيا استفادت حين ظهرت للعالم أجمع متماسكة وقوية وأن شعبها خرج كقوة واحدة وصوت واحد ضد الانقلابات وضد أن تُنتزع منه حريته وديمقراطيته وهو مستعد أن يدفع دمه ثمناً للقيم التي يؤمن بها من ديمقراطية وحرية وعدالة
أخيراً، هنيئاً للشعب التركي الذي فرض كلمته، وهنيئاً للأتراك هذا الجيش الوطني، وهنيئاً لهم هذه الحكومة وأجهزة الدولة التي تقف بجانبهم دائماً، وهنيئاً لهم حتى بأحزاب معارضتهم!
لعلّنا نشهد يوماً ما هذه الوحدة الوطنية في دولة عربية، نأمل ذلك!