“تركيا ليست جمهورية موز، كي يسعى البعض لتعكير صفوها بتعليمات من الخارج”، “إن صفونا لا يتعكر، ولكن الذين يسعون لذلك وأدواتهم سيتعكر صفوهم كثيرًا”.
هذه الكلمات التي دأب الرئيس التركي الحالي رجب طيب أردوغان على ترديدها في مناسبات شتى آن لها أن تُختبر حقيقة لا قولًا فقط، رفض أردوغان وفريقه في الحزب الحاكم دائمًا تشبيه الوضع في تركيا بأي دولة أخرى كان ينالها نصيب من الاضطرابات بفعل انقلابات عسكرية أو غيرها، لا سيما بعدما أحداث الانقلاب العسكري في مصر، التي تلتها محاولات إثارة قلاقل في الداخل التركي، حيث استمروا في التأكيد على أن تركيا طلقت إرث الانقلابات العسكرية للأبد.
عبدالله جول: تركيا ليست إحدى جمهوريات الموز، وليس بلدًا في إفريقيا حتي ينجح انقلاب عسكري في وضع يديه علي البلاد، علي من قاموا بهذه الحركة العودة لرشدهم والتوقف عن هذا العبث في ظل ما تواجه البلاد من أرهاب وتحديات تتطلب توحيد الصف .
استكمل جول: هذه المحاولة الانقلابية لم تحدث من التسلسل الهرمي لقيادة الجيش، مشيرًا إلى أن من قاموا بهذه الانقلاب لن يستطيعوا أن ينظروا في وجه الشعب داعيًا الشعب التركي إلى العودة سريعًا للديمقراطية، حيث طالب الشعب التركي بالتحرك سريعًا لإنهاء هذه الليلة الظلماء لافتًا إلى أن الديمقراطية حققت الكثير للشعب التركي والتي يجب أن يحافظ عليها.
كانت هذه أحد تصريحات أحد الأقطاب السابقين لتجربة العدالة والتنمية في تركيا، وقد راهن في كلماته هذه التي خرجت بعد ساعات قليلة من بدء المحاولة الانقلابية على فشلها معللًا ذلك بأن تركيا ليست جمهورية في أفريقيا حتى تنجح فيها هذه المحاولات.
هذه المفاصلة والتصريحات التي راهنت على اختلاف تركيا عن نظيراتها من بلدان أفريقيا وأمريكا اللاتينية، رغم معاناة تركيا من إرث انقلابي شديد الوطأة لا زالت آثاره واضحة في بنية الدولة التركية حتى الآن، إلا أن هذه الحالة بعد فشل هذه المحاولة الانقلابية تثير تساؤلات عدة عن أسباب اختلاف تركيا حاليًا عن أفريقيا وأمريكا اللاتينية فيما يتعلق بإمكانية حدوث انقلابات عسكرية.
الحالة الأفريقية والأمريكية اللاتينية
لمعرفة أسباب اختلاف تركيا عن هذه الحالة يجب أن تكون واضحة أمامنا قبل سرد تفاصيل الاختلاف، فالقارة الأفريقية عانت عقودًا من الانقلابات العسكرية ، حتى أن بعض الإحصاءات تقول بأنه لا يمر عام واحد على القارة السمراء دون أن يخرج جيش إفريقي من ثكناته ويسيطر على السلطة بدواعي “فساد السلطة” أو “الحفاظ على الحريات” كما ادعت المحاولة الانقلابية الأخيرة في تركيا، وتكون النتيجة في الغالب كارثية على البلاد والمدنيين فيها.
وخلال 60 عامًا شهدت القارة الإفريقية 83 انقلابًا عسكريًا، وهو رقم يتفوق على الانقلابات العسكرية في القارات الأخرى في القارات الأخرى، حيث بدأت الموجة الأعنف من الانقلابات في منتصف القرن الماضي بعد فترة قصيرة من حصول عدد من الدول الإفريقية على استقلالها من الدول الاستعمارية.
وإلى أن وصلنا لمنتصف سبعينيات القرن الماضي بات نصف الدول الإفريقية تقريبًا محكومة بواسطة العسكريين. ورغم نجاح بعض تجارب الانتخابات والتداول السلمي للسطة في الثمانينيات، إلا أن هذه الأسلوب لم يلق انتشارًا كبيرًا، أو إن شئت قل لم يلق دعمًا خارجيًا كبيرًا، إذ عادت موجة الانقلابات مرة أخرى في فترة التسعينيات، حتى بدأت القارة الأفريقية تدرك مؤخرًا الويلات التي جرتها على نفسها بهذا النسق من الوصول للسلطة حتى بدأت تحاربه لكنها لم تتخلص منه مطلقًا، وما الانقلاب العسكري المصري ببعيد.
كما بدأت أفريقيا تدرك أن القوى الاستعمارية لم تكن بعيدة كثيرًا عن لعبة الانقلابات في إفريقيا، إذ مارست تأثيرًا على الحياة السياسية والاختيارات الاقتصادية لهذه الدول الجديدة التي كانت تابعة لها، كما لعبت الشركات الدولية سياسات وصلت حد تسليح جماعات من المتمردين لضمان السيطرة على مصادر المواد الخام.
أما على جانب أمريكا اللاتينية فيمكن القول أن القارة اللاتينية كلها بؤرة ملتهبة تشتعل بالانقلابات بين الحين والآخر، رغم أن عددًا من دولها توجه نحو الديمقراطية وتداول السلطة، ولكن لا يزال الوصف ينطبق عليها الذي أطلقه المخرج السينمائي رومان كارمن “القارة الملتهبة”.
الثورات انتشرت في هذه البقعة بقوة في الستينيات، وكانت حركات حرب العصابات بدأت نشاطها في عدد كبير من البلدان وظهر أنها في غاية القوة، وراحت قوى دولية كالولايات المتحدة تفضل عمليات استيلاء الجيش علي السلطة لعدد من الأنظمة للحفاظ على مصالحها هناك، مثل ما حدث في “البرازيل وتشيلي والأرجنتين وأوروجواي” لمواجهة مد الحركات التحررية التي اتخذت أسلوب حرب العصابات.
وقد أثبتت الوقائع التاريخية بمجرد مراجعة سريعة لسجل القارة أن كبار تدخل الولايات المتحدة في شؤون أمريكا اللاتينية لعب دورًا أساسيًا في تسهيل زعزعة استقرار الدول هناك منذ الثمانينيات.
وعليه فإن إرث الانقلابات العسكرية في هذه المناطق الجغرافية (أفريقيا – أمريكا اللاتينية) أصبح يُضرب به المثل، ولم تكن تركيا التي شهدت أربعة انقلابات عسكرية في تاريخها بعيدة عنه، حتى جاءت حكومة العدالة والتنمية في العام 2002، وغيرت هذه المعادلة لنتحدث الآن عن أن “تركيا ليست جمهورية موز في أفريقيا أو أمريكا اللاتينية”.
كيف حدث ذلك؟
تركيا الحديثة منذ نشأتها على أنقاض الدولة العثمانية عانت من الحكم العسكري بطبيعتها، وحينما بدأت الإجراءات الديمقراطية بها، تمرد العساكر على هذه الإجراءات في غير مرة وأطاحوا بحكومات منتخبة، بل وأعدموا رئيس الوزراء التركي عدنان مندريس في انقلابهم عام 1960.
وجر ذلك الانقلاب بعده ثلاثة انقلابات عسكرية أضرت بالحياة السياسية والاقتصادية بالبلاد، وكبدتها خسائر غير مسبوقة، وعززت الخلافات الداخلية لتسود حالة القمع والظلم كما يصفها المراقبون للشأن التركي.
تاريخ الانقلابات في #تركيا.. من أول انقلاب في تاريخ الجمهورية حتى استقالة حكومة أربكان عام 1997#قول_كلمه_لاردوغان pic.twitter.com/w7LckSWZhb
— نون بوست (@NoonPost) July 16, 2016
وفي 1997 حدث ما سمي بالانقلاب الأبيض على حكومة “نجم الدين أربكان” أو ما عرف بـ”الانقلاب ما بعد الحداثة” بعد وصول حزب الرفاه إلى السلطة سنة 1995، ووصل وحليفه الطريق القويم ليصبح الزعيم الإسلامي الراحل “أربكان” رئيسًا للوزراء، أول رجل ذي توجه إسلامي صريح يصل إلى السلطة، وهو الأمر الذي أغضب مجموعات كمالية علمانية، ودعاهم إلى تحريك الأذرع العسكرية ضد الحكومة المنتخبة عام 1997.
وقد تم تشكيل حزب العدالة والتنمية كرد فعل على هذا الانقلاب بقيادة تلامذة أربكان وعلى رأسهم رجب طيب أردوغان، وحقق فوزًا ساحقًا في انتخابات عام 2002 بعد 5 أعوام من الانقلاب.
كان لدى قادة العدالة والتنمية وعي بطبيعة الدولة التي ورثوا حكمها، لذا لم يصطدموا بالجيش بداية، وعملوا على إذاقة الشعب طعمًا آخر للحكم المدني متمثلًا في الانجازات الاقتصادية والاجتماعية، تلك المنجزات التي دافعت عن التجربة الديمقراطية أمام المحاولة الانقلابية الأخيرة.
تغلغل العدالة والتنمية في مؤسسات الدولة والجيش في مطلعها، وحاول بعد شرعية الانجاز تقليم أظافر الجيش بشكل أو بآخر لكنه لم يتمكن من هذا الأمر تمامًا على مدار سنوات لطبيعة تكوين الدولة التركية كما أسلفنا.
وعليه كان على العدالة والتنمية في هذا التوقيت أن يقوي مؤسسات أخرى في الدولة أمام هذه الأجنحة التي هي جزء آخر من الدولة، ولكن من أجل إحداث التوازن المطلوب.
نقطة أخرى هي أن تركيا العدالة والتنمية علمت أن الاستعمار الجديد هو أحد أهم أسباب الانقلابات العسكرية، هذا النوع الجديد من الاستعمار الذي يخدم مصالح الغرب عن طريق دفع جنرالات إلى السلطة بانقلابات عسكرية للحفاظ على مصالح القوى الكبرى.
لذا عمل نظام العدالة والتنمية على تقوية موقفه في المنظومة الدولية، بحيث تزداد أهمية استقرار الدولة التركية في نظر الغرب، وقد ساعد هذا عضوية تركيا في حلف الناتو، وكذلك ما تمر به المنطقة حاليًا من اضطرابات قد لا تتحمل حدوث المزيد عن طريق انقلاب عسكري في تركيا، مع ملاحظة أن الموقف الغربي لم يدعم الحكومة الشرعية تمامًا سوى بعد حسمها للمواجهة، فالمعامل الداخلي أقوى بالطبع من التعويل على الخارج.
كما يجدر الإشارة هنا إلى أن أسباب قيام انقلاب عسكري غير موجودة في تركيا، وعليه كان التحرك مستهجنًا، حيث استطاعت تركيا على مدار عقود أن تتخطى أزمة الانقلابات وترسي بعضًا من المبادئ الديمقراطية التي تنجح في حل الخلافات الكبرى، والانقلابات ربما تحدث حينما يحتدم الصراع دون وجود آلية ديمقراطية لحسمه، وهو ما لا ينطبق على الحالة التركية التي تشهد طفرة ديمقراطية في المنطقة.
في حين لا يمكن إغفال المؤسسة العسكرية التي هي من أهم المؤسسات التي خلفتها الدولة الاستعمارية، وهى وبجانب الدولة المركزية تمثّل أهم عناصر الإشكاليات والعناصر التي تناولتها دراسات ما بعد الاستعمار، والتعامل المدني معها (العلاقات المدنية العسكرية) هو الذي يحدد أدوارها.
حيث أن التدخل من جانب الجيش والمؤسسة العسكرية فى العملية السياسية أصبح السمة المميزة للدول النامية وخاصة فى النصف الثاني من القرن العشرين وإلى نهايته، وهو ما تخلصت منه تركيا تدريجيًا على مدار 14 عامًا.
فبين عامي 1970 – 1975م فقط حدث حوالى40 انقلاب عسكري فى30بلدًا فى آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. ويقول غيورغى ميرسكى:(ولم يعد نادرًا فى العديد من دول القارات الثلاث انتقال السلطة إلى العسكريين مع ابتعادهم عنها فيما بعد وعودتهم من جديد فى الغالب) .
وهي من أكبر الكوارث التي تحرف الجيوش عن أداء مهامها ووظيفتها فى حماية البلاد والتفرغ للتطوير والتخصصية، وكذلك دخولها فى حلبة الصراعات السياسية يُفقد المؤسسة العسكرية قوميتها وحيادها، وهو ما دفع تجربة العدالة والتنمية إلى تفريغ الجيش للتطوير والاتجاه نحو التخصصية أكثر.
الكاتب الامريكى المشهور صمويل.أ.هنتغتون أرسى نموذجًا تقوم على أساسه العلاقات العسكرية المدنية وهو ما سماه “درجة المهنية” فيقول: “كلما كانت المؤسسة العسكرية مهنية فى مهمتها، ابتعدت عن التدخل المباشر فى السياسة، وكلما قلت مهنيتها، ازدادت تدخلا فى السلطة” ويرى هنتغتون أنّ مهنية القوات المسلحة تكمن فى تجويد مهمتها الأساسية وهى حماية البلاد من التهديد الخارجي، وهى ليست معنية بقضايا الأمن والسياسة الداخلية.
هذا لا يعني أن تركيا تخلصت تمامًا من دور المؤسسة العسكرية في السياسية إلا أنه يجري الحد من ذلك تدريجيًا بشكل كبير، والمحاولة الانقلابية الفاشلة الأخيرة سوف تعطي فرصة أكبر للتحول باتجاه تحييد الجيش ونزع سيفه من على رقبة المدنيين الحاكمين.
ظرفًا آخر يمنع من تكرار تجارب أفريقيا وأمريكا اللاتينية في تركيا الجديدة، وهو أن تركيا مرت بالفعل بهذه الحالة من قبل وذاقت ويلاتها، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تتجه الأجيال التي عانت من مساوئ الانقلابات أن تكرره بعد أن وصلت إلى منجزات اقتصادية واجتماعية كبرى، وقطعت شوطًا كبيرًا باتجاه إرساء حياة ديمقراطية حقيقية.
وقد ظهر ذلك في تمسك النسيج الشعبي التركي برفض الانقلاب (حكومة ومعارضة) لأن الأمر لا يعدو تهديدًا لخصم سياسي كالعدالة والتنمية، وإنما تهديدًا للحلبة ككل التي يتنافس عليها الأتراك.
هذا ولا يمكن إغفال دور الاستخبارات التركية القوية التي ربما كان لها الدور الأكبر في تدارك الأمر بعد تدهوره ووقوع مؤسسات عدة ومناطق حيوية في أيدي الانقلابيين، وهو يعكس وعي استخباراتي ومعلوماتي كبير، حيث سربت أخبار كثيرة قبل هذه المحاولة عن إحاطة الحكومة التركية بمحاولة قوى إقليمية ودولية إثارة القلاقل في الداخل التركي لتوفير بيئة انقلاب عسكري على حكومة العدالة والتنمية، ويتعاظم هذا الإدراك إذا ما علمنا أن الانقلابات التركية الأربعة السابقة كانت بتنسيق خارجي مع الولايات المتحدة الأمريكية، وهذا الوعي والإدراك بطبائع الأشياء في تركيا ربما أنقذ تركيا من مصير جمهوريات الموز.