ليلة عصيبة قضاها الشعب التركي وقيادته وقضاها معهم الثائرون في بلدان الربيع العربي، بدأ الأمر يوم 15 يوليو 2016 في حوالي الساعة العاشرة مساءً برسالة من صديق يسألني عما يحدث في تركيا؟ كان ردي عليه بأنني لا أعلم ولكن بدأت مع رسالته الأنباء تتواتر عن نزول قوات الجيش في العاصمة السياسية التركية أنقرة والعاصمة الاقتصادية إسطنبول، تحدثت مع بعض الأصدقاء فأكدوا لي أن هناك اشتباكات تجري حرفيًا ومواجهات في أنقرة وأن هناك قصف تم من إحدى الطائرات المروحية، بعد قليل علمنا في إسطنبول أنه قد تم إغلاق جسري البسفور بقوات الجيش وتم إغلاق مطار أتاتورك وأن هناك قوات للجيش وصلت لميدان تقسيم، وتم الاستيلاء على التلفزيون الرسمي المتمثل بقنوات الـ TRT.
نظرت من نافذة منزلي فوجدت الجميع يحاولون الهروع إلى منازلهم بالسيارات، لا أحد يفهم ما يحدث والكل خائف، اتصلت بصديقين لي ممن لهم اتصالات مع الأتراك كانت إجاباتهم أنه ومن أصدقائهم الصحفيين الأتراك أو الحزبيين فإن الانقلاب قد نجح وأن الأمر قد تم، كانت أصواتهم حزينة واجمة، أغلقت معهم لأتواصل مع صديق يعيش في تركيا منذ سنوات طويلة فقال لي الأمر لم ينته بعد ولكن ابق بمنزلك أنت وأي أجنبي لأنه سيتم الحشد لتظاهرات وسيكون هناك سلاح واستعداد للاشتباك وأنتم لا تعلمون طبائعنا هنا ولن تستطيعوا التصرف.
كانت الرسائل تنهال عليّ من بعض الأصدقاء بالخارج تأمرني بالسفر ومنهم من هم بحجز تذكرة طيران لي حتى أسافر فور فتح حركة الطيران، بينما كان هذا يتم كنت أفكر في تداعيات الأمر وحتمية الصراع وحكمة الله في الأمر، كانت ملاحظتى الأولية هي شدة خوف المسلمين في تركيا وسوريا ومصر وليبيا والعراق وتونس والكثير في كل مكان، فالمسألة ليست مسألة أردوغان، المسألة أكبر وأعمق من ذلك في صراعنا الذي نخوضه ضد قوى الاحتلال الخارجي وأذرعها الداخلية في بلداننا.
وبينما أنا كذلك إذ بدأت في سماع أصوات سيارات كثيرة تمر من جوار منزلي فنظرت فوجدت عشرات السيارات تندفع من داخل المناطق السكنية باتجاه الطرق الرئيسية في غضب، ترافق هذا مع ظهور الرئيس التركي بكلمة بثها عبر برنامج إلكتروني وعلى قناة خاصة يأمر فيها الشعب بالنزول والاندفاع للميادين سريعًا.
كانت الكلمة بهذا المنظر تعني لي نجاح الانقلاب في السيطرة على مقاليد الحكم بتركيا وأن الصراع الآن قد تحول لصراع وقت والغلبة للأسرع والأحسم في التحركات، بعد الكلمة نزل الشعب التركي للشوارع وخرجت قوى المعارضة لتدعم موقف أردوغان بعدما تبين لهم أنه لم يتم القبض عليه بعد.
ظننت في البداية أن مهما كان التحرك فإنه سيتم القضاء عليه لوجود سلاح ضد المتظاهرين المدنيين، ولكن ما لبثت أن رأيت عند صديقي الذي يعيش هنا في تركيا صورة نشرها لخروج الأتراك بسلاح من منازلهم، حينها فهمت معنى رسالته السابقة لي.
في نفس الوقت بدأت القوى المؤيدة لأردوغان في التحرك داخل الأجهزة الأمنية (قوى الشرطة وقواتها الخاصة وقوى الاستخبارات) وقاموا بالالتحام بالشعب والجموع الغاضبة بلباسهم العسكري والمدني، وتحركت الأجهزة المحلية “البلديات” المؤيدة للحزب الحاكم بسيارات جمع القمامة وغيرها فقامت بإغلاق الطرقات لعرقلة تحرك قوات الجيش، وبدأت الجماهير تتجه باتجاه الأماكن التي تم الاستيلاء عليها لمواجهة قوات الجيش، لتبدأ المواجهات ويتدخل سلاح الطيران ضد المتظاهرين ويسقط عشرات القتلى.
وفي تقسيم أطلقت قوات الجيش الرصاص الحي على المتظاهرين ليسقط قتلى من المتظاهرين أيضًا ومنهم سيدة محجبة كانت صورتها وهي مضرجة في دمائها وقد فاضت روحها لبارئها كفيلة بإغضاب نفوس من رأها.
أدركت من تواتر الأنباء أن الوضع في أنقرة يسير لصالح قوات الانقلاب ولكنه في إسطنبول لا يسير لصالحهم خصوصًا لما أراه من سرعة تحرك المعارضين للانقلاب، أثناء هذا بدأت مساجد تركيا تصدح بالآذان وتدعو للحشد وورأيت بعينى مظاهرة بالسيارات تتحرك وأمامها سيارت للمطافئ تتصدر لحمايتها.
كل هذا ترافق مع انتشار تصريح لأردوغان أن من نزل من قوات الجيش للانقلاب لا يمثل الأتراك ويجب السيطرة عليهم.
بعد ساعتين من تصريحاته كانت الصورة تتضح لي أكثر وملخصها:
– وجود رضاء عربي على الأمر أو صمت في أحسن أحواله، ولعل المتابع لقناة سكاي نيوز الإماراتيه يعلم كيف كانت الإمارات سعيدة بما يحدث، بينما عكست قناة العربية توازن مزيف يميل في حقيقته لدعم الانقلاب بتركيا.
– أن أنقرة خارج السيطرة وليست آمنة كنقطة مواجهة.
– أردوغان يدرك أن النصر ليس بالاتصالات الخارجية أو التعويل على القوى الدولية أو الإقليمية، بل النصر يأتي من الداخل فقط.
– يجب خلق نقطة حاضنة قوية له وأن إسطنبول أفضل الأماكن.
– من أجل ذلك يجب شحذ الجموع وتوجيه غضبها تجاه نقاط محددة للسيطرة عليها ودعمها بقوى مسلحة ممن يؤيد أردوغان من قوات الشرطة والاستخبارات للحسم الفوري.
وهذا ما تم بالفعل، اشتباكات مسلحة جرت في أكثر من مكان بإسطنبول وجماهير غاضبة تفتك ضربًا بأي رجل عسكري من قوات الانقلاب يقع تحت أيديهم، لتبدأ الأخبار في التواتر عن نجاح اقتحام مطار أتاتورك وانسحاب قوات الجيش منه، وتحرير العديد من المقار الأمنية بإسطنبول بل وتحرير مقر قنوات الـ TRT الرسمية، وتسريب صور وفيديوهات عن كيف يتعامل جموع الشعب مع الانقلابيين وكيف تحاول قوات الشرطة والاستخبارات الموالية لأردوغان حماية العسكريين من غضب الجموع الشعبية الغاضبة، ليظهر أردوغان بعدها في إسطنبول وسط جموعه ورجاله ومركز قوته.
بدأت الليلة بخوف ووجل أصاب الجميع خصوصًا وقد بدا أن الانقلاب قد نجح وبحزم بتركيا، ولكن كانت مكالمة لأردوغان لقناة خاصة والتي كان لملخصها الاشتباك ومحاولة الحسم المضاد تأثير آخر في دفع الجموع بغضب ليتلقفها رجال أردوغان في الشرطة والاستخبارات وقوات أخرى تتبعه ليندمجوا بين الجموع وبأوامر حاسمة بوجوب الحسم.
تأثير القيادة كان واضح ليلة أول أمس ولم تكن هناك أيدي مرتعشة تحرك المشهد، الرسائل كانت واضحة من الطرفين وملخصها “نحن أو أنتم حياة أو موت”.
مشهد استعادة قناة ال TRT ورفض العسكريين بالداخل الانصياع لأوامر ضباط الشرطة بالاستسلام ثم اندفاع الجماهير لداخل القناة يوضح لك كيف تم فهم سيكولوجية الجماهير وكيف تم تحريكها بشكل فعال وسريع مع دعمها بقوات نظامية مدربة.
تم استغلال الإعلام بشكل جيد في الحرب النفسية وكان هناك تعمد لإظهار القوات العسكرية وهي تهان وتبكي ويتم ضربها من قبل المواطنين بل إظهارهم مكبلين بالأصفاد وبشكل مذل،
بل وصل الأمر بنشر قيام قوات عسكرية تابعة للانقلاب بخلع ملابسها كلها ماعدا قطعة داخلية واحدة وخروجهم بهذا الشكل للاستسلام.
وكرد فعل للمعركة الداخلية تغير الموقف الدولي لتبدأ رسائل دعم أردوغان والديمقراطية في الظهور.
ما حدث ليلتها ليس النهاية فلا تركنوا للاطمئنان، فالعدو لن يستريح والمعركة بين الخير الشر لن تنتهي أبدًا والأكثر انتصارًا فيها هو من يعلم دومًا أن المعركة مستمرة ومتأرجحة لمن يأخذ بالأسباب بشكل أفضل وأسرع من الطرف الآخر.
بدأت ليلة حزينة وانتهت سعيدة ولكنها أظهرت عوار الكثيرين بشكل كاشف.
أظهر المشهد أثر القيادة وأثر وجود قوات موالية لك، وأظهر فائدة الحاضنة الشعبية وقوتها في قلب الموازين إذا تم توجيهها بقيادة واعية فعالة حاسمة وتم تدعيمها بقوات مسلحة تدافع عنها وتحسم من خلالها.
مشهد ليلة الانقلاب وما فعله الشعب التركي يذكرني بيوم الجمعة 16 أغسطس 2013 حينما نزلت جموع الشعب المصري وبأعداد مهولة جدًا في الكثير من المحافظات المصرية، ثورة على مجزرة رابعة العدوية ولإزاحة العسكر، يومها وفي بعض المحافظات استولت الجموع الغاضبة وبأيديها العارية على أسلحة ومدرعات وسيطرت على مراكز أمنية بل ومديريات أمن رئيسية، ولكن الفرق كان في القيادة.
أقول هذا لمن كان همه خلال الساعات الماضية أن يخرج همه في سب الشعب المصري ويضعه في مقارنة ظالمة مع الشعب التركي، أقول لهؤلاء: لا تلوموا الشعب المصري فإن الشعب التركي لم تتركه قيادته لوسائل إعلام تزيف وعيه وتحشده ضده بعد ثورة.
الشعب التركي كان لديه قيادات لم تترك الجموع الثائرة تائهة لا تعرف ماذا تفعل بعد أن وصلت ميدان رمسيس يوم الجمعة 16 أغسطس 2013، الشعب التركي لم يكن لديه قيادات تفاوض الأمن كي تعيد له المديريات والمراكز الأمنية التى استولت عليها جموع الثوار، الشعب التركي لم يكن لديه قيادة ضعيفة كانت تترضى على العسكر قبل الانقلاب عليها، ولم يكن لديه نخب من الحمقي تدعو لانتخابات رئاسية مبكرة والنزول مع قوات الجيش والشرطة يوم 30 يونيو.
الشعب التركي لم يكن عنده باسم يوسف ويسري فودة ويوسف الحسيني ولميس الحديدي وغيرهم، الشعب التركي لم يكن لديه نخبة مزيفة لا تحمل هم الثورة بحق مثل الدكتور البرادعي والدكتور عبد المنعم، الشعب التركي لم يكن لديه حركات “ثورية” تنظر تحت قدميها بسطحية شديدة مثل حركات 6 أبريل أو الاشتراكيين.
لذلك ولذلك كله لا تظلموا الشعب المصري بوضعه في مقارنة غير عادلة مع الشعب التركي.
وختامًا اعلموا أن الأمر لم ينته وأن الأمر لم يعد صراعًا ثوريًا أو صراعًا على الكراسي أو على ما يسميها البعض ديمقراطيه، الصراع صراع تغيير حضاري يحاول النظام العالمي الذي أُرسيت قواعده من بعد الحرب العالمية الثانية الانتصار فيه.
ولينصرن الله الحق إن آمن به أهل الحق وعملوا على الأخذ بأسبابه.