يبدو أن كل مسلمات النخبة المصرية وخاصة الإسلامية منها التي كانت على رأس السلطة في مصر قد تهاوت بشكل عملي في محاولة الإنقلاب الفاشلة والتي لم تنته تماماً في تركيا حتى الآن، فانقسام الجيش على نفسه والتظاهر السلمي فقط والرهان على الوضع الدولي لم يكونوا حاضرين في مشهد إفشال أكبر حركة إنقلاب حدثت في تاريخ حكم العدالة والتنمية. توصيف ما حدث باختصار أنه إدارة أزمة بقيادة لها قوة خشنة على الأرض تُحسن إستخدامها ببسالة، وكذلك قوة ناعمة جماهيرية تستطيع تحريكها وتوجيهها لمساعدة القوة الخشنة على أخذ التدابير اللازمة لإنهاء هذه الأزمة المفاجئة والدموية.
في نهاية يوم الجمعة ليلة العطلة الرسمية في تركيا بدأت محاولة إنقلاب عسكري على حكومة العادلة والتنمية ورئيس الدولة رجب طيب أردوجان. بدأ ذلك بالتحركات الأولى للحركة الإنقلابية وتحديداً بتطويق مقر هيئة الأركان في أنقرة بالآليات العسكرية واحتجاز رئيسها والهجوم بسلاح الجو على عدة نقاط في أنقرة وغلق جسر البسفور الذي يربط الجانب الأسيوي في اسطنبول بالجانب الأوروبي، وكذا السيطرة على مداخل المطار وأبراج المراقبة فيه، كانت حركة الشارع هادئة لكن حدث تغيير كبير عندما خرج الرئيس التركي أردوجان ومن مكالمة فيديو من هاتفه المحمول بُثت مباشرة على أحد القنوات التركية دعا فيها جموع الشعب للنزول والتظاهر.
لكن على صعيد آخر قام رئيس المخابرات في تركيا هاكان فيدان بإعطاء أمر يجب الوقوف أمامه كثيراً حيث صرح في رسالة خطية لوسائل الإعلام يقول فيها أنهم سيصمدون ويقاتلون لآخر رصاصة، تبع ذلك عمليات أمنية من القوات الخاصة أولها تأمين تحركات الرئيس التركي ومساعدته على الخروج لوسائل الإعلام ووسط الناس في شكلين متعمدين أولهما رسمي يتحدث فيها إلى وسائل الإعلام والأخرى شعبية وسط الجماهير وقبل ذلك تأمين هبوط طائرته في مطار اسطنبول بعد أن كانت سيطرت قوات من الجيش على المطار وعلى أبراج المراقبة، وكذلك في عملية أمنية فريدة لم تتكشف تفاصيلها بعد تم تحرير رئيس هيئة الأركان التركية.
تتالت بعد ذلك العمليات الأمنية في تطويق القوات العسكرية المتمركزة في المناطق المختلفة خاصة في مدينة اسطنبول، واعتقال قياداتها من قبل القوات الخاصة، وكان الدور الجماهيري هو في دعم القوات الأمنية والضغط على قوات الجيش على الأرض، وفي هذه الأثناء جابت سيارات تابعة للداخلية وسيارات مدنية أيضاً يُعتقد أنها تابعة لحزب العدالة والتنمية بدعوة المواطنين للنزول للشارع بل وقامت السيارات بنقل المتظاهيرين من الأماكن البعيدة عن البؤر المسيطر عليها من قبل الجيش إلى تلك البؤر لتعزيز تواجد الجماهير.
بعد فترة وجيزة جداً قامت القوات المتواجدة عند مطار أتاتورك الدولي بالإنسحاب وسط حشود جماهيرية كبيرة، وفي مكان آخر باسطنبول وتحديداً في تقسيم وأثناء محاولة قوات فض الاشتباك والجماهير الضغط على القوة العسكرية المتواجدة في نفس المكان قامت قوات فض الاشتباك بإطلاق الرصاص بشكل عنيف باتجاه طائرات حربية كانت تحلق على مستوى منخفض فوق الميدان في رسالة واضحة بالاستعداد للصدام.
لكن بقيت معضلة كبيرة وهو سلاح الجو التركي الذي من الواضح أن الخيانة بداخله كانت كبيرة لكن تأثيره كان محدود في اسطنبول على عكس العاصمة أنقرة، وفقد التحكم والسيطرة عليه وعلى الجيش نتيجة احتلال هيئة الأركان – العقل المدبر والموجه الأول لقوات الجيش في عموم البلاد- كان يمثل أكبر تهديد حيث بدأ بالتعامل مع أهداف في العاصمة أنقرة.
ولأن قيادة القوات الجوية مركزية ولا يمكن توجيه التشكيلات بعد هذه الخيانة بشكل اعتباطي من قبل قيادات الجيش لعدم معرفة هوية التشكيلات أو الطائرات التابعة للخونة حدث شلل في التعامل مع خطر قوات سلاح الجو إلى أن اتخذ قرار أعتقد أنه على قدر كبير من الذكاء بإعطاء أومر لتشكيل واحد فقط من مدينة إسكي شاهير بالتحليق في سماء أنقرة والتعامل مع أي طائرات تحلق في سماها وكذلك الأمر في اسطنبول وهذا في اعتقادي ما جعل تحركات سلاح الطيران وتأثيره بعد هذا القرار شبه منعدم.
حدثت عمليات أمنية أخرى وصفها أردوجان بأنها عمليات جراحية لكن لم تتكشف ولم تظهر للعيان بعد، وهي للعلم مستمرة حتى كتابة هذه السطور والأرقام الأولية تشير إلى اعتقال حوالي 3000 عسكري وأكثر من ٢٥٠٠ من المؤسسة القضائة.
بمقارنة أعداد المتظاهرين في تركيا بالأعداد التي نزلت أثناء انقلاب الثالث من يوليو في مصر فليس هناك وجه للمقارنة؛ فالأعداد في مصر أكبر بكثير لكن استثمار أردوجان وفريقه في الأجهزة الأمنية والمخابرات واختيار قيادات الجيش وقدرة إستغلال الحشود وحسن إدارة توجيهها كانت في رأيي العوامل الهامة في كسر هذا الإنقلاب المحدود والذي لم يحظى بحاضنة شعبية مؤثرة حتى في صفوف غيرالإسلاميين من العلمانيين أو القوميين.