بعد خمسين عامًا على الانقلاب العسكري الشائن في البلاد، تركيا أخيرًا تعزّز مؤسساتها الديمقراطية.
في 27 مايو 1960، اعتقل ضباط الجيش التركي رئيس الوزراء المنتخب ديمقراطيًا عدنان مندريس، وأعضاء حكومته. تمّت محاكمة مندريس أمام محكمة عسكرية بتهمة الخيانة العظمى، وأُعدم في وقت لاحق. طول نصف القرن الماضي، كافحت تركيا للتغلب على هذه الخطيئة المتأصلة في العلاقات المدنية-العسكرية.
وفي النهاية، أصبح هناك بعض العلامات المشجّعة التي جعلت تركيا تتقدّم في إقامة نظام ديمقراطي مستقر. وخضع العسكريون الأتراك لعمليات التدقيق القانوني والمجتمعي على الرغم من محاولاتهم للانقلاب على الديمقراطية في تركيا.
وعلى عكس آراء بعض المحللين الأتراك والغربيين، فإنَّ النضال الأساسي في تركيا ليس بين الإسلام والعلمانية، وإنما بين السلطويّة العسكرية الزائفة والديمقراطية الليبرالية.
في يونيو عام 2009، نشرت صحيفة “طرف” اليومية ما قال المحررون إنها وثيقة عسكرية مُسرّبة تضمنت عمليات سريّة لتقويض الحكومة المنتخبة بقيادة حزب العدالة والتنمية وتهميش قاعدة الدعم. وكان من بين التكتيكات زرع أسلحة في مهاجع الطلاب المتعاطفين مع فتح الله غولن ثمّ مصادرة تلك الأسلحة من أجل تصوير الحركة كمنظمة إرهابية.
ومن أجل محاولة احتواء تداعيات هذه الفضائح، هرع رئيس هيئة الأركان العامة، الجنرال إيلكر باشبوغ، للظهور أمام الكاميرات وتعهّد بأنَّ تلك الوثيقة مجرد “قطعة من الورق،” وأعاد الأوضاع لنصابها في الأوساط التركية القومية العلمانية. بالنسبة لهم، هذا مجرد تلفيق من “الإسلاميين” الذين يرغبون في تشويه سمعة الجيش، الوصي الذي نصب نفسه حارسًا للعلمانية. ولذلك، أغفلوا باستمرار التقارير المقدّمة من المؤسسات الرسمية للطب الشرعي في تركيا إلى الادّعاء المدني التي تؤكد صحة الوثيقة. وفي شهر مارس، خلصت النيابة العسكرية أيضًا إلى أن التوقيع الموجود على الوثيقة يعود إلى دورسون جيجيك، وهو كولونيل كان يعمل بهيئة الأركان العامة التركية في ذلك الوقت.
في يناير عام 2010، كشفت صحيفة “طرف” مرة أخرى عن أجزاء من وثيقة مكّونة من 5،000 صفحة تنطوي على خطة انقلاب عسكري مزعومة من عام 2003، اسمها “المطرقة”. كان السيناريو الموضح في الوثيقة مثيرًا للغاية: مجموعة من كبار الضباط يتباحثون حول كيفية زعزعة الاستقرار في تركيا لتمهيد الطريق لاستيلاء الجيش على السلطة. وتضمنت أفكارهم الإبداعية إسقاط متعمد لطائرة مقاتلة تركية لتصعيد التوتر مع اليونان وقصف مسجدين رئيسيين في اسطنبول لإثارة الاضطرابات الاجتماعية. ونتيجة لذلك، تمّ اعتقال عشرات من الضباط العسكريين المتقاعدين عن الخدمة الفعلية، من بينهم جنرالات، ومحاكمتهم أمام محكمة مدنية.
وكان رد الفعل الأوليّ من المخيم العسكري مألوفًا: إنكار، تستر، واتهامات بمؤامرة واسعة من قِبل المتعاطفين مع غولن في الجيش والشرطة والقضاء.
كل هذا يشير إلى ثورة غير مسبوقة في السياسة التركية. وهذه هي المرة الأولى في تاريخ تركيا الحديث التي يتم فيها تحدي عدم مساءلة الجيش بمثل هذه الطريقة الواضحة. لقد أنجز الجنرالات ما لا يقل عن أربعة تدخلات عسكرية مباشرة في تركيا خلال العقود الخمسة الماضية، وفي كل مرة كانوا يفعلون ذلك دون عقاب أو مساءلة. ولكن ليس هذه المرة.
وأفضل مثال على روح التيار الإصلاحي التركي الجديد هي المحاكمة التاريخية والتحقيقات مع منظمة إيرجينيكون، وهي تكتل للعديد من المجموعات المختلفة التي تضم عشرات من الضباط العسكريين والمدنيين العسكري المكرسين للحفاظ على النظام المنهار في تركيا في عهد الحرب الباردة. ووفقًا لأعضاء النيابة العامة، وضعت الاتهامات الموجّهة لمنظمة إيرجينيكون الأساس لاستيلاء الجيش على السلطة من خلال توظيف التكتيكات الوحشية، بما في ذلك الاغتيالات السياسية والتفجيرات الإرهابية، والدعاية الموجّهة من قِبل وسائل الإعلام للرأي العام التركي.
اكتشف المحققون في قضية إيرجينيكون الوثائق التي قالوا إنّها تحمل توقيع العقيد جيجيك، حتى قبل أن تعلن عنها صحيفة “طرف”. قادت الخرائط التي تمّت مصادرتها الشرطة إلى مواقع مخزونات سريّة للأسلحة المملوكة للجيش المدفونة تحت الأرض. كما كشفت الوثائق الغرض من هذه الأسلحة. وفقًا لعملية تسمى “خطة القفص”، التي وقّع عليها العديد من الضباط العسكريين، فإنهم سيقتلون سرًا شخصيات غير مسلمة في تركيا من أجل وضع اللوم على حزب العدالة والتنمية الحاكم.
وقد أبرز اللوبي العسكري بعض المشاكل في تحقيق إيرجينيكون مثل مداهمات الشرطة في الصباح الباكر لمنازل المشتبه بهم وسوء الصياغة الواردة في لوائح الاتهام الأوليّة. ولكن إجمالًا كان وضع الادّعاء قويًا للغاية، مدعومًا من قِبل تسجيلات صوتية أمرت به المحكمة، ووثائق تمّ ضبطها، وكمية كبيرة من المتفجرات والأسلحة، وخطط اغتيال مفصلة، إلى جانب سجلات عسكرية أخرى. وفي بلد حيث تدخل الجيش مرارًا في الشؤون السياسية، يمكن تصوّر مثل هذه المؤامرة.
وبطريقة تدعو للتفاؤل، أظهر الرأي العام التركي دعمًا كبيرًا لهذه القضية. ما يقرب من 60 بالمئة من المشاركين في استطلاع للرأي أجراه مركز “ MetroPOLL”، في شهر مارس 2010، أعربوا عن تأييدهم لاحتجاز المشتبه بهم واعتقال العسكريين المرتبطين بخطة انقلاب عام 2003. وكان الاستثناء الرئيسي هم أعضاء الحرس القديم في تركيا. في الاستطلاع نفسه، ما يقرب من 70 بالمئة من الناخبين الجمهوريين لحزب الشعب الجمهوري، وهو حزب مفضّل للمؤسسة القديمة، اختلف مع لوائح اتهام.
في نظر كثير من ناخبي حزب الشعب الجمهوري، يجري إضعاف الدولة العلمانية تحت ستار الديمقراطية لوضع الأسس لدولة دينية. ولكن على الرغم من ذلك تركيا هي أمة لديها إيمان راسخ، ومثل الولايات المتحدة فالبلاد ليس لديها أي ميول للتطرف أو الثيوقراطية، حتى بين الفئات الأكثر محافظة دينيًا في المجتمع. وعلى العكس من ذلك، العناصر المحافظة الدينية الكبرى مثل حزب العدالة والتنمية وحركة غولن تضغط علنًا لمزيد من الديمقراطية في تركيا. وتحت حكم حزب العدالة والتنمية، استوفت تركيا معايير كوبنهاجن السياسية، التي تحدد ما إذا كان البلد مؤهلًا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وبدأت بعد ذلك محادثات الانضمام للاتحاد الأوروبي في عام 2005. كما ترعى حركة غولن منصة “ابانت” السنوية لسلسلة من المحادثات، حيث يناقش مجموعة متنوعة من المثقفين والمسؤولين الحكوميين كيفية تحسين الديمقراطية في البلاد. بالتأكيد هناك أخطاء للحركة، ولكن العسكريين يتعاملون مع كل جماعة دينية مؤثرة باعتبارها حركة إسلامية لها أجندة خفيّة.
جذبت حركة غولن الكثير من الاهتمام. وغولن نفسه البالغ من العمر 69 عامًا، الذي يعيش في الولايات المتحدة الآن، والذي نادرًا ما يظهر في العلن، يدعو إلى التفسير المعاصر للتقاليد الصوفية التركية، المتوافقة مع الحداثة والعلم. وبعد أن بدأت كمجتمع صغير في أواخر الستينات، وبمرور الوقت تمّ تحويلها إلى حركة كبيرة غير مقيّدة مع حضور قوي في العديد من المجالات الرئيسية في المجال العام في تركيا. ولكن كما هو الحال مع أي حركة مستقلة ناجحة أخرى، فإن العسكريين يرون في ذلك تهديدًا لرؤيتهم الضيقة لمستقبل تركيا.
الليبراليون الإصلاحيون مثل أورهان باموك، الحائز على جائزة نوبل للأدب، تعرضوا لحملات تشهير من نفس الجمهور. وقال باموك علنًا إنَّ منظمة إيرجينيكون هدّدت بقتله. وليس من المستغرب أنَّ كمال كرينجز، وهو محام قومي متطرف قاد الجهود القانونية للحدّ من حق باموك في حرية التعبير، تم توجيه الاتهام إليه باعتباره أحد المتهمين في قضية إيرجينيكون.
يعرض اللوبي العسكري قضية إيرجينيكون بوصفها حملة سياسية لإسكات المعارضة العلمانية لحكومة حزب العدالة والتنمية ومؤيديها. ولكن في حين كانت هناك علامات في الدوائر الحكومية لزيادة الانزعاج من الانتقادات عشية ليلة الانتخابات العامة لعام 2011، صمدت المعارضة السياسية إلى حد كبير في تركيا. وأصبح مئات من العلمانيين والقوميين والمثقفين الليبراليين ينتقدون بحرية الحكومة كل يوم.
ما نراه يحدث في تركيا اليوم هو عملية تحول ديمقراطي، مدعومة من السيطرة المدنية على الجيش. ولكن نظرًا للمشاكل الناجمة عن الدستور غير الليبرالي في البلاد، الذي هو نتاج الانقلاب العسكري عام 1980، لم يكن التقدم مرنًا دائمًا. واتهم المنتقدون أنَّ تحقيقات إيرجينيكون قد جرت لفترة طويلة دون تقديم أي قناعات. هذه هي السمة المشتركة والمؤسفة للنظام القضائي في تركيا: المحاكمات التي بدأت في عام 1982 ضد “ديف سول”، وهي منظمة يسارية متطرفة، استغرقت 28 عامًا قبل إدانة 39 شخصًَا في نهاية المطاف. والحل هو إصلاح دستوري شامل يتضمن القضاء. مثل هذه الخطوة سوف تحسن دور القانون، وتعزز وضع تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي عن طريق مواءمة الإجراءات القضائية في البلاد مع المعايير الأوروبية.
لقد لاحت مبادئ مصطفى كمال أتاتورك في عقول الضباط الشباب الذين قادوا انقلاب عام 1960، ولا تزال الطبقة العسكرية في تركيا تبرر موقفها باسم الأب المؤسس لتركيا. ولكن أتاتورك كان في الأساس إصلاحيًا براغماتيًا هدفه الرئيسي هو التحديث والتكامل مع الغرب. والغرائز الدولتيّة الثابتة والنزعة العسكرية للحرس التركي القديم هي التي أبطأت التقدّم نحو تحقيق تلك الأهداف. مفهوم “الدولة المحصّنة” لدى العسكريين ورفاقهم تغيّر بشكل كبير في السنوات القليلة الماضية، ولكن لا يزال هناك الكثير من العمل الذي يتعيّن القيام به. وعلى الرغم من اعتراضات المدافعين، كان أتاتورك ليكون فخورًا بما حدث في تركيا.
المصدر: فورين بوليسي – ترجمة: إيوان 24