في البداية أجدني مضطراً إلى الاستدراك حول بعض النقاط قبل الخوض في موضوع تدوينتي هذه نظراً لتعقد الموضوع الذي ستتناوله، والاستدراك الأول يخص التأكيد على رفضي الشديد لنمط المقارنات السطحية والساذجة التي تلوي وتختزل عنق الحقائق والوقائع لإظهار تشابه مصطنع أو تأييد استنتاج مسبق.
كذلك، فإن هذه التدوينة لا تستهدف تقديم تحليل سياسي لحادثة مازالت تداعيتها على الأرض مستمرة، إذ إن ذلك يعد اندفاعاً ورعونةً لا تليق بذلك المقام، وإن كانت قد تتفهم في سياق التنافس حول السبق الصحفي والإعلامي على سبيل المثال.
وثالثاً فإن ما سأتناوله يجب ألا يُفهم على أنه يدخل في إطار التراشقات بين المعسكرين الإسلامي/العلماني، أو الثورة/الثورة المضادة أو حتى ألتراس “السلطان أردوغان”/ في مقابل “الديكتاتور أردوغان”؛ لأن ذلك إما أنه لا يعنيني أو أن له سياقاً آخر يمكن أن أتناوله فيه.
الأمر ببساطة هو التعبير عن أفكار وخواطر انتابتني حين وجدتني للمرة الثانية وخلال 3 سنوات أتواجد في إحدى العواصم الكبرى وهي في حالة انقلاب، نفس التجول والتيه في الشوارع بليلة صيف، وهي تبدو إما خالية بشكل مُوحش، أو تمر بها إحدى الدبابات أو المدرعات يعتليها مجندون متأهبون، أو تجوب فيها حشود صاخبة، أو تمرق خلالها سيارات تطلق أبواقها محتفلة أو ساخطة، حالة “deja vu” كاملة، وهو التشابه الذي بطبيعة الحال يثير تلقائياً الميل للمقارنة والمقاربة: ما الفرق بين قاهرة يوليو 2013 وإسطنبول يوليو 2016؟
الفرق بين الحالتين ليس زمانياً أو مكانياً فقط بطبيعة الحال، الفارق الجوهري يكمن في خبرات ومواقف متباينة لأطراف عدة.
بين قوى سياسية مدنية أدركت أن خصومتها مع الحكومة أو النظام الحاكم على شراستها لا تبرر مبدئياً أو مصلحياً الركون إلى خيار الانقلاب العسكري؛ لأن العسكريين حين يتم استدعاؤهم لحل نزاع سياسي فإنهم على الأغلب يتدخلون لتأميم السياسة لصالحهم لا لدعم طرف على حساب طرف، أو لحماية ديمقراطية (تحت تهديد مدنيين!).
من حراك شعبي يكتسب قوته من كيفه لا كمه، ومن تنوعه وتمثيله لمختلف الأطياف السياسية والمجتمعية مع وحدته في شعاراته وأعلامه، ومن قدرته على تبني أجندة وطنية مشتركة وليس من تهديداته الجوفاء أو شغبه وعنفه.
من مؤسسة عسكرية لا ترى نفسها “عمود الخيمة”، أو “الفتوة وسط الحرافيش”، أو “الدكر وسط المدنيين العيال”، التي لم تعد تراود جنرالاتها أحلام من طراز “الساعة الأوميجا” أو تنتابهم هلاوس سمعية ورسائل بأنهم المنقذون والمخلصون.
من وعي سياسي عام لم يتلوث من غسيل الأدمغة بالتخويف والتفزيع حيناً من طراز “الدولة بتقع ومصر مستهدفة”، وبالوعود البلهاء والمغازلات الممجوجة حيناً، بأنهم “نور العين” وأن “مصر هاتبقى قد الدنيا”.
من حكومة تعرف بالضبط حجم ما تواجهه وتعرف كيف تواجهه بدلاً من الغفلة وسوء الإدارة تارة، والدفع بالأمور إلى حافة الهاوية دون تبصّر بموازين القوى والعواقب تارة أخرى، ثم إلقاء المسؤولية على المؤامرات الداخلية والخارجية دون إقرارها بفشلها الذريع.
مرة أخرى، أعلم أن هذه المقارنات والمقاربات مع الفارق، وأن السياق غير السياق والأطراف غير الأطراف، لكن الدلالات قد تتشابه، وما نحتاجه هو إدراك شيء من دلالته، وهو أن المؤسسة العسكرية وسلاحها قد تقف عاجزة عن القتل – ولو بتواطؤ دولي – إذا وجدت أمامها طبقة سياسية مسؤولة ومتفاهمة على تنوعها وخلافاتها، ووعياً شعبياً سياسياً يرى أن السلاح الذي استأمن عليه العسكريين لا يعطيهم نقطة قوة سياسية، ولا يجوز بأي حال من الأحوال أن يستخدم لحسم خلاف – أو حتى صراع – سياسي، وحكومة تؤدي وظائفها بفاعلية وكفاءة تمنحها شرعية وقبولاً شعبياً إلى جوار الشرعية القانونية والانتخابية.
المصدر: هافنغتون بوست