بعد الاحتلال الأمريكي للعراق شكلت مدينة الموصل والمناطق المحيطة بها مصدر قلقٍ كبيرٍ لكل الأطراف الإقليمية والدولية التي ترى في هذه البقعة من العراق، خاصرة رخوة يمكن للجميع النفوذ إليها.
مصدر القلق يأتي لاعتبارات عديدة أهمها التركيبة السكانية المعقدة لتلك المنطقة، ناهيكم عن الزعامات السياسية والواجهات الاجتماعية التي لها علاقات أو ارتباطات بأكثر من طرف إقليمي ودولي.
بعد سقوط الموصل (4-10 حزيران 2014) بيد داعش، والانهيار الكبير للمؤسسة العسكرية العراقية، سادت توقعات بأن تستغل كافة تلك الأطراف الإقليمية والدولية حالة الفوضى، وذلك بالعمل على زيادة نفوذها عبر الارتباط بالأطراف المحلية الفاعلة في تلك المنطقة.
وفقًا لهذا السيناريو رأت إيران – الطرف الإقليمي الأكثر فاعلية في الساحة العراقية -، أن تعزيز نفوذها عبر الأطراف المحلية هناك، سيسمح لها بتوطيد علاقاتها الاستراتيجية مع الفاعلين الدوليين، وستكون بمثابة “سكين خاصرة” تفرض شروطها على أي تحالف يريد تحرير هذه المنطقة من داعش أو يسعى لإعادة تشكيل أو تغيير منظومة الحكم فيها هذا من جهة.
ومن جهة أخرى ترى إيران في ذلك تأمينًا لموقعها التفاوضي مع الدول العظمى، في ملفات داخلية وخارجية إيرانية، أهمها كان الملف النووي الإيراني، والذي تحلم إيران بتحقيقه وإنجازه، لبناء قوة مهيمنة في عموم الإقليم، لتبسط نفوذها على المنطقة ولتملأ الفراغ الناجم عن انسحاب الأمريكيين من المنطقة.
الموقف العربي الرسمي وعلى الرغم من تباين المواقف الدولية تجاه التوغل الإيراني في الأراضي العراقية، إلا أنه كان هناك شبه إجماع عربي في عدم التورط في التدخل في الشأن العراقي من دون غطاء دولي، وهذا خطأ كلف الدول الإقليمية عواقب كبيرة، نتحدث هنا عن تركيا والسعودية تحديدًا، الدولتان الجارتان للعراق، اللتان لم تستطيعا إلى الآن تدارك خطأهما الكارثي.
ربما أدركت تركيا قبل السعودية هذا الخطأ، رغم تأخرها طبعًا، فكانت الخطوة التركية صادمة بالنسبة لإيران وروسيا، خطوة تركيا المتقدمة بعض الشيء تجاه الموصل، تأتي لما تمثله الموصل من مكانة خاصة لدى الأتراك، فتركيا دولة إقليمية جارة وعضو في الناتو، اتخذت موقفًا متقدمًا عندما أرسلت قوات تعمل على تدريب قوات عراقية.
الدور التركي المتقدم يأتي لاعتبارات أهمها عضويتها بحلف شمال الأطلسي، وعلاقاتها بالولايات المتحدة الأمريكية، وخصوصًا فيما يتعلق بالبعد الأمني، فالموصل ورغم أهميتها الجيوسياسية بالنسبة لتركيا، قد تكون اليوم، وللمرة الأولى، أكثر المدن نحو “تصدير” الفوضى إليها.
الكرد وفي معركة تحرير الموصل تحديدًا، ظلت البوصلة الدولية تتجه نحو رؤيتهم وشروطهم في الحرب ضد داعش، لأسباب أهمها أنهم الفاعل المحلي الأقوى والأكثر تنظيمًا مقارنة بباقي الأطراف المحلية.
ولهذا اتجهت تركيا والسعودية عبر بوابة كردستان لتفعيل علاقاتها مع باقي الأطراف المحلية العراقية، أسوة بباقي أغلب دول التحالف التي تقف في الحرب ضد داعش والتي اختارت البوابة نفسها، يظهر ذلك في الدعم الكبير الذي تقدمه تلك الدول لحكومة كردستان، إذا ما قارناه بالدعم المقدم لبقية الأطراف المحلية العراقية.
فيما بقيت روسيا وإيران وأذرعهما بالمنطقة متمسكين بدعمهم لـ PKK ليس نكاية بحكومة كردستان فحسب، بل من أجل الوقوف بالضد من التحالف الدولي الذي تقوده أمريكا، والذي تمثل قوات البشمرگة الكردية الفاعل المحلي الأبرز فيه.
عودة الأمريكيين وعلى نحوٍ غير متوقع، خطوة صدمت كل أذرع إيران في المنطقة، الأذرع المشغولة اليوم بصراعاتها الداخلية، والتي عجزت إيران عن ضبط صراعاتها، الأذرع التي كانت في الأيام الأخيرة ما قبل مغادرة الأمريكيين للعراق أداة ضغط لخروجهم منه، عودة منحت زخمًا كبيرًا لكل الأطراف التي تناهض المشروع الإيراني في المنطقة.
أما فيما يخص توعّد مليشيا الحشد الشعبي في المشاركة في معركة تحرير الموصل، فمنذ بداية الحرب على داعش، والجميع يؤكد أن مشاركة هذه المليشيات في أي معركة هو عامل تأجيج للصراع الطائفي هذا من جهة، وتأخير لحسم المعارك لصالح القوات الأمنية والمؤسسة العسكرية، بالصورة التي يتمناها جميع العراقيين أيضًا، وهذا ما ثبت ليس للعراقيين فحسب، بل للعالم أجمع.
ولهذا ترفض غالبية الأطراف السنية القبول بتقديم أي شكل من أشكال الدعم لهذه المليشيات والمجاميع المسلحة في أي ممارسة عسكرية أو أمنية في أي معركة في المدن التي تسيطر عليها داعش، فالأعمال الانتقامية والممارسات الإرهابية ومشاهد التخريب للبنى التحتية وحرق منازل المواطنين، كانت مشاهد حاضرة في كل المعارك التي شاركت فيها تلك المليشيات في مدن مثل الفلوجة وتكريت.
وحتى لو نحينا جانبًا حالة الشك وعدم اليقين الواسعة فيما يتعلق بضرورة مشاركة مليشيا الحشد الشعبي في معركة كبيرة كمعركة تحرير الموصل، فلا يمكن إقصاء أو تهميش من يؤمن أن مستقبل هذه المليشيات مرهون بوجود داعش، وبما يحصلوا عليه من دعم على حساب القوات الأمنية، ناهيكم عن سرقة جهود القوات الأمنية نفسها، والأخطر هو تحميل المؤسسة الأمنية والعسكرية الرسمية كل الانتهاكات والأعمال الإرهابية التي تقوم بها هذه المليشيات.