ما يتم ذكره بالأسفل، كلام لن يهم أي شخص بالدرجة الأولى، و هو ليس الا محاولة تقييد تفاصيل دقيقة جداً لذكرى لن أنساها ما حييت، اذا ما رغبت بالاكمال، فيا أهلاً وسهلاً.
كان من المفترض أن أستلم غرضاً مهمًا من المطار قبل سفر أم زميلتي، وكان المخطط أن نلتقي في مجمع تجاري قريب من المطار، وحين وصلت في الوقت المحدد، تبين انه حدث سوء تفاهم وكان العنوان مختلفاً، و كانت خلاصة الأمر انه لا حاجة للمجيء للمطار وبامكانك العودة، ولكن لشعور داخلي- لا يعلم سببه حينها الا الله- أصررت على الذهاب الى المطار.
على بوابة المطار، كنت قابلت أحد أصدقائي، كان يعمل في المطار، و كان لا يملك هاتفًا -سرق هاتفه قبل يوم- وتحدثنا لمدة نصف ساعة، ومن ثم غادرت، لالتقي بمن كان مقررا لي ان التقي معهم.
جلسنا في مقهى سميت سراي، وشربنا القهوة و شربت عصير ليمون، وكان قد بلغ المرض مني مبلغاً لا يعلمه الا أنفي، ذهبنا لنحضر الشاي و عدنا، لتقول لنا خالتي انه يوجد انقلاب في تركيا، كان الأمر أشبه بمزحة بائخة، وكانت ردة الفعل بالتحديد: ” -شخرة غزاوية-رحنا نجيب شاي، نرجع نلاقي في انقلاب؟ ” ، فتحت تويتر، لأرى اول تغريدة مكتوب فيها : مطار أتاتورك مغلق ومحاصر من قبل دبابات الانقلاب. وقرأت التغريدة زميلتي ولم نخبر خالتي بأي شيء.
عشر دقائق من الاخبار المتوالية، اضطررنا في ما بعد، لأن تودع زميلتي امها، وان نخبرها ان المطار مغلق من قبل الدبابات، وانه يجب ان نغادر المكان قبل أن تتعاظم الأمور، وهي عليها ان تذهب لتكمل اجراءات التشيك إن. ودعت امها. وذهبنا.
وصلت بوابة المطار الداخلية المؤدية الى محطة المترو، صديقي عبد الله يرن عليّ ويسألني : أينك؟ رددت: في المطار، وقال حالاً ادخل للمطار، واختبئ في مسجد المطار، حتى الصباح. وكذلك اسحب كل أموالك من البنك، واشتري مؤونة تكفيك حتى الصباح، و في حقيقة الأمر حتى هذه اللحظة لم آخذ التحذير على محمل الجد، لم يكن الأمر في حدود التوقع او الفهم أصلاً.
ذهبت لأتفحص محطة المترو، ووجدتها فعلاً مغلقة، ثم عدنا أدراجنا الى المطار، واتصالنا بخالتي نخبرها ان تعود، لنقضي وقتاً لحين اقلاع طيارتها، فكان قرارها اني لن أسافر حتى تتضح الأمور. في حقيقة الأمر كانت قد وصلت الى شباك كنترول الباسبورت، ولم يتبقى سوا دورين، لكنها عادت.
عدنا الى نفس المقهى، نتابع الأخبار، ونتلقى الاتصالات من كل حدب وصوب، ومن ثم ذهبنا فاشترينا مؤونة يومين من المعجنات والخبز والمياه والسكر، وكان بجانبي عمٌ تركي يحاول ان يفهم شيئاً من بث قناة الجزيرة، سألته اذا ماكان يريد شرب شيء ما فطلب شاي كعادتهم، في ذلك الوقت كانت السفارة الاسرائيلية قد أخبرت رعاياها أن الأمور قد تسوء، وقد يستمر الحصار اسبوعاً واحدًا على الأقل. وتهيب بهم أن يشتروا مؤونة تكفيهم مدة طويلة.
في لحظة ما، كنا ننتظر بائع البوظة ان يعطينا كلمة مرور الانترنت، وفجأة أصبحت حشود الناس في المطار تجري في اتجاهات عشوائية، والأصوات تتعالى، ولم يخطر ببال احد سوى الهروب، كما يقولون حلاوة الروح! لا أدري بأي حال هربنا، ولكن الشيء الوحيد الذي ظلّ عالقاً بذهني هو أن المشهد الذي أعيشه الآن، يماثل تماماً المشهد ذاته قبل أسبوعين حين دخل مسلحٌ ارهابي مطار أتاتورك، وأطلق النار بشكل عشوائي على الناس، وهرب الناس الى كل مكان، حتى فجر نفسه. هذا هو الشيء الوحيد الذي كنت أفكر فيه، ان هناك ارهابياً، او عسكرياً انقلابيا قد تمكن من دخول المطار. ذهبنا الى دورة المياه، وكانت سيدة تركية تقوم بتنظيف المكان، رغم الحدث الحاصل لم توقف عملها، وكانت تقول لا تقلقوا، لم يحدث شيء، وفي حقيقة الأمر كانت ملامح الرعب تغلف وجوه الجميع. ولم يطمئنوا حتى جلسوا في زاوية بعيدة عن الساحة الداخلية.
في تلك اللحظة بدأنا نتنبه اننا تركنا كل ما نملك على الطاولات، وليس معنا شيء، وحينما تبين انه لا يوجد أي خطر ما، عدنا بهدوء وروية الى مكاننا في المقهى، لنجد كل شيء في مكان، ووجدت هاتفي ملقى على الأرض، جمعنا أشيائنا في مكان واحد، وجلسنا بجانبها.
بدأنا نفكر في أن الأمور كانت تتجه الى الأسوء، ولا احد هنا يعرف ما الذي يدور، ولا علم للشرطة أو الموظفين بما يحدث، كانت اوقات عصيبة. ووجدت الناس من حولي بدأت تتصل بأقاربها ومعارفها، وكان اناس كثيرون، يطالبون بالسماح من ذويهم، ويودعون. بجانبي كانت امرأة، قد هاتفتها ابنتها الصغيرة تقول لها: ” الم تكن طائرتك اليوم؟ لماذا لم تأت حتى الآن؟” وبعد هذه المكالمة كانت الأم قد انهارت في موجة بكاء طويلة. وكان هذا أقسى ما مر عليّ في لحظتها.
في بداية الأحداث كان أهلي يحاولون الاتصال فأخبرتهم بايجاز انني بخير، ولا املك شاحن هاتف، ولم أخبرهم بأنني في المطار، ولكن بعد الحادث الاخير، ارسلت لهم رسالة فيديو قصيرة مقتبضة تنتهي بكلمة “بحبكم”. ارسلتها لأبي وأمي واخواتي، ولحسن حظ أبي وأمي انهم ناموا، ولم يشاهدوا هذا الا بعد انتهاء الأحداث.
في تلك اللحظات، كان الجميع على أهبة الاستعداد للهرب او الانبطاح في حال حدث شيء ما، وكانت كل حركة غريبة مثيرة للانتباه. مرةً أخرى بدأ الناس بالهرب، ولم يكن من بعض الاتراك الا ان ينادو بصوت عالٍ: “لا أحد يتحرك، انبطحوا أرضاً، يكفي!” و ” بانيك يوك، لا قلق”. مما هدئ من روع الناس. بعد دقيقتين كانت احدى فتاتين تريدان الذهاب الى الجانب الآخر من القاعة، وقامتا بالجري، فما كان من الناس الا ان انهالوا بالسباب عليهن، كي لا يربكن الآخرين.
بعد ثلاث ساعات ونصف من الاحتجاز و بعد لحظة صمت عمت المكان، كانت أصوات التكبير والتحميد والتهليل خارج المطار تقترب، اكثر فأكثر، انفتحت أبواب المطار، – وفي حينها لم يكن الناس على علم بماهية الأشخاص الداخلين- وقام الناس من اماكنهم يترقبون القادم، وكانت اصوات التكبير تتعالى، وكانت الناس يتوافدون في اربعة طوابير، يتقدمهم شخص يوجههم داخل المطار- أطلقنا عليه فيما بعد لقب محمد فاتح المطار- ، وحينها تهللت وجوه الناس، وأكملت التكبير معهم، حتى أن الأم التي كانت انهارت من البكاء قبل قليل استعادات عافيتها وأصبحت تكبر وتهلل بقدومهم، وظلت تتعالى الصيحات و التحايا. وبدأت الشرطة تبشّر الناس، وتقول لهم “بانيك يوك”. انخرط الناس في المطار مع المتظاهرين ضد الانقلاب، وانتشروا في أنحاء المطار.
انتشر الناس في انحاء المطار، وكانت الأخبار القادمة أخبارًا مبشرة الى ذلك الحين، وفي وقتها تمكننا من مغادرة القاعة الداخلية للمطار و تنفسنا الصعداء حين خرجنا من المطار. بدأنا بالمشي حيناً وبالركض حيناً آخر، و كانت الاحتفالات والتظاهرات تعم ساحة المطار الخارجية، وكانت الناس على أقل تقدير اكثر من مليون شخص جاؤوا مشياً على الأقدام من مسافات تزيد عن عشرة كيلو متر على الأقل. كانت مشاعر الفرحة تغمر الجميع، ومشاعر الخوف والاضطراب لا زالت موجودة.
#تثبيت: طيلة فترة الاحتجاز، وحين دخول المتظاهرين، كانت سلوكيات الناس تدل على فهم ووعي لا بأس به، ولم يقم احدٌ ما بتخريب أيٍ من أثاث المطار، او القيام بسرقة او نهب اي شيء -رغم امكانية وسهولة ذلك- عدا عن مشهدين، لشخص غاضب طرح احد اللافتات أرضاً -لسبب لا أعلمه- و الآخر لمواطن كان يتجادل مع الشرطة بصوت عالٍ يريد أن يفهم ماذا يحدث.
خرجنا من المطار، وحينها كنت قد اتصلت على صديقي يسكن بقرب المطار، لنقضي الليلة هناك، وكان مرحّبًا، و من ثمّ ذهبنا الى كابينة حراسة، وطلبنا منهم أن نشحن احدى هواتفنا لأننا انقطعنا حينها عن كل وسائل الاتصال. بعد دقائق معدودة، اكتشفت خالتي ان جواز سفرها مفقود! ولم يكن الحل الوحيد سوى العودة لتفقد جواز السفر. ونحن عائدون الى المطار بعد ان قطعنا مسافة لا بأس بها. بدأت طائرات الF16 بالتحليق على مدى منخفض، وفاجأنا صوت انفجار كبير، وضع الناس اياديهم على رؤوسهم وانبطحوا ارضاً، واقتربوا من الجدران، ولكن تبين فيما بعد ان الطائرة قد اخترقت حاجز الصوت. وأنا -كغزاوي لا تغادره التجربة- قلت لهم في بدايتها انه تفريغ جوي، ونحن -كخريجين حروب- نعلم أن الصاروخ الذي سيقتلك لن تسمع صوته.
تكرر الأمر ثلاث مرات، وكان الرعب البادي على وجوه الأجانب، اكثر من الأتراك نفسهم، وفي تلك اللحظة كانت زميلتي تشعر بالاعياء، وكان سيغمى عليها، همّ الناس بمساعدتها، و قمنا نشربها الماء، حتى وقفت على اقدامها واكملنا السير مرّة أخرى. اوقفنا سيارة عادية، نقلتنا الى مكان بعيد عن المطار، وعن التجمهر. شكرنا المرأة، أصبحت الساعة قرابة الرابعة فجراً، وجلسنا نصف ساعة ننتظر بتاكسي فارغ ليقلنا الى بيت صديقي، وبعد طول انتظار وجدناه.وبعد دقيقتين كنا قد علقنا بالزحام، وتبين ان الطريق مغلقة ومليئة بالمتظاهرين والسيارات التي تحاول الوصول الى المطار، فكان الخيار الوحيد ان نذهب الى فندق بعيداً عن المطار، وفي مكان آمن. اوصلنا سائق التاكسي الى فندق قريب.
دخل كلٌ منا غرفته، وتنفسنا الصعداء أخيراً نحن في أمان. نمنا وكان التعب قد نال منا، وبلغ النعاس بنا مبلغاً. خمس ساعات من النوم، واستيقظت على كثير من المكالمات والرسائل التي تطمئن، من بينها احد اقاربي في بلجيكا، يخبرني ان صديقه عالق في المطار، و أوصلني به كي احاول استضافته، و أعطيته عنوان الفندق، وكان مثلنا، قد أتى بلا شنطة سفر، ولا يحمل الا محفظته.
استقبلته، استرحنا قليلًا، ثم قضينا اليوم خارج الفندق، وبعدها ذهبنا الى المطار مرّة اخرى، لنعود بحثاً عن الشنط و جواز السفر.
وصلنا المطار، وكان مشهداً مهيبًا، كل الناس مصطفين على جوانب البوابة تحيي القادمين، والكل يهلل ويكبر، والشعارات والهتافات لم تتوقف للحظة، مررنا بمشهد عظيم لا أنساه، للجنود العساكر الذين كانو يحمون المطار، كانوا مغادرين بعد يوم كامل من الدوام، يحملون سلاحهم وعتادهم على أكتافهم والناس يشيحون بأيديهم لهم، و أخر ينادي: ” انتم رجال، رجال كالرجال” ، وهتاف جماعي يقول:” هذا الوطن يشعر بالكبرياء لوجودكم”. وكان الجنود يمشون رافعين رؤوسهم ويردون السلام على الناس. كان مشهداً مهيبا بحق.
دخلنا المطار، وتقريباً بلا مبالغة، سالنا كل مكتب وشرطي عن جواز السفر الضائع والشنط، بعد ساعة ونصف من المحاورات والملاحقات، ذهبنا الى أول مكان دخلناه، وسألت الشرطي اذا ماكان ثمّة جواز سفر ضائع؟ فبحث في الدرج، فوجدت جواز السفر، وكأنني وجدت كنزاً من الذهب، وكان صراخنا قد عمَّ المطار فرحاً.
مرّة أخرى، هذه تفاصيل دقيقة كتبت لتخزن في الذاكرة الفردية، لي على الأقل، كتبتها مرة واحدة، وسأنشرها دون مراجعة.
شاكراً كل من سأل واطمأن واتصل، نحن بخير. والسلام.