حاولت مؤامرة من داخل الجيش التركي أن تستولي على السلطة مساء يوم الجمعة الماضي بالقوة، عبر تحريك قطع عسكرية من مختلف الأسلحة للاستيلاء على النقاط الاستراتيجية في البلاد، والإطاحة بالحكومة الشرعية المنتخبة بعد محاولة لاغتيال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
لن نتحدث هنا عما ذهب إليه البعض من تورط لدول غربية في هذه المحاولة الانقلابية، رغم إننا لن نستطيع مهما حاولنا أن نغفل التاريخ الذي يؤكد أن 4 انقلابات سابقة في تركيا وقعت بالترتيب المسبق مع المخابرات المركزية الأمريكية (سي.آي.أيه).
ولكن يمكن أن نركز فقط على مسألة تغطية الإعلام الغربي لأحداث المحاولة الانقلابية الفاشلة وتبعاتها، وفي هذا الصدد لا يمكن أن نتجاهل تسلسل ردود الأفعال الغربية على محاولة انقلاب مكتملة الأركان، تصفها الولايات المتحدة في البداية بـ “الانتفاضة” في بيان سفارتها في تركيا، ثم تخرج تصريحات مسؤوليها بعد ذلك لتعلن دعم الديمقراطية، بعد أن تمكنت القوات الموالية للحكومة الشرعية من حسم الأمر بشكل كبير.
كما أن ثمة وقائع غريبة ذات دلالة لا يمكن تجاهلها أيضًا مثل تحذيرات فرنسا لدبلوماسييها في تركيا قبل يومين من محاولة الانقلاب، وإغلاقها السفارة والقنصلية.
إلا أن كل هذا يأتي في إطار الاستنتاج والتخمين في ظل غياب أية معلومات واضحة عن وقوف دولة بعينها خلف هذه المحاولة الفاشلة، كما أن الحكومة الشرعية التركية لم تتحدث في هذا الصدد حتى الآن، وربما يحدث ذلك في الأيام القادمة.
سوءة الغرب وإعلامه
وما يعنينا الآن هو ما ظهر من سوءة الغرب وإعلامه أثناء تغطية أحداث المحاولة الانقلابية الفاشلة، فبينما تحاول مجموعة عسكرية متمردة قتل رئيس منتخب، ينشر مركز الدراسات الأمريكي ستراتفور “المعروف بصلاته الاستخباراتية” معلومات عن رحلة الرئيس رجب طيب أردوغان في وقت متأخر من يوم الجمعة من مدينة مرمريس جنوب تركيا إلى مطار أتاتورك الدولي في إسطنبول بينما كانت طائرات انقلابية تحاول اعتراض طائرته، وهو الأمر الذي يعني إدراك الولايات المتحدة لما يحدث جيدًا، وأن وصفه بالانتفاضة في البداية لم يكن عشوائيًا.
وفي تحليل لها بصحيفة واشنطن بوست، نسبت الكاتبة كارين دي يونغ إلى مسؤولين في وزارة الدفاع الأميركية -رفضوا الكشف عن هوياتهم- قولهم ، إنهم كانوا “على علم بما يحدث في تركيا، لكنهم لا يزالون يحاولون تحديد آثار ذلك على عمليات الولايات المتحدة”.
وولفتت يونغ إلى أن البيت الأبيض انتظر ساعات قبل أن يصدر بيانًا قويًا يعارض العملية الانقلابية في تركيا.
وعليه فإن الصحف الأمريكية سارت باتجاه يثير القلق من نظام أردوغان بعد نجاحه في صد الانقلاب على حكومته، حيث كتبت صحيفة نيويورك تايمز في افتتاحيتها أن ليس ثمة كبير شك في أن الرئيس التركي “سيصبح تواقا للانتقام ومهووسا”.
مجلة “فورين بوليسي” قالت “إذا رأى الرئيس التركي في بقائه تفويضا له لتوطيد سلطته على الدولة بشكل أكبر، فإنه سيشرع على الأرجح في خطته القديمة الرامية إلى إعادة صياغة الدستور لاستحداث منصب الرئيس التنفيذي”.
مجلة “ناشونال إنتريست” رأت أنه من غير المستغرب أن أردوغان “لم يضيع وقتا في إلقاء اللوم على جماعة غولن”.
“وول ستريت جورنال” تنشر خبرًا مفاده أن: “مخططو الانقلاب استهدفوا الرئيس التركي بغارة مروحية وصفت بالـ “جريئة”
وفي المقابل لم نجد أي حديث في الصحافة الأمريكية عن انتصار الديمقراطية أمام محاولات الانقلاب العسكري التي جرت، وإنما شبه اللوم على عدم نجاح الانقلاب، وتبعات فشله.
الصحف البريطانية تحت رئيس تحرير واحد
أما إذا انتقلنا لمتابعة الصحف البريطانية وتغطيتها لما حدث في تركيا خاصة في الفترة التي أعقبت استعادة الحكومة الشرعية لزمام الأمور ودحر المجموعات العسكرية المتمردة، فإننا سنجد تطابق في التناول بشكل عجيب.
إذ أن غالبية الصحف التي صدرت تحدثت في فكرة واحدة وهي أن استعادة أردوغان للسلطة من أيدي هؤلاء المتمردين بهذه الصورة سوف تؤدي إلى نوع من السلطوية والتعدي على الحريات، دون الإدانة الواضحة لمحاولة الانقلاب الواضحة، وكأن من أخرج هذه الأفكار جميعها رئيس تحرير واحد لكل هذه الصحف.
وهو ما ذهبت إليه صحف كبرى كالصندي تايمز، صنداي تلغراف، إندبندنت، حتى أن صحيفة الجارديان ذات التوجه اليساري لم تنجُ من هذا التناول المنمط المتجاهل لما حدث، لتختفي أي عبارات مدافعة عن حق الشعب في اختيار حكامه، لصالح منشتات كهذه:
“فشل الانقلاب في تركيا لم يحم الديمقراطية بل قبرها” – “عنف الغوغاء أصبح مقبولًا دفاعًا عن الديمقراطية” – “أردوغان ينقلب على الديمقراطية”.
حتى أنه لم يكن متوقعًا إذا نجح الانقلاب أن تكون مهاجمة إجراءاته القمعية بهذه الصورة الشنيعة.
الصحافة الألمانية نسخة من الصحافة العربية
إذا نظرنا إلى تناول الصحف الألمانية المعادية لأردوغان بالأساس قبيل هذا الانقلاب، فإنها تحولت بحسب مراقبين إلى نسخًا من الصحف العربية في تغطية محاولة الانقلاب على رجب طيب أردوغان، متناسية اي قيم غربية مدعاة تتحدث عن رفض الانقلابات العسكرية.
حتى أن بعض هذه الصحف لم تشغل بالها بانتصار الحكومة الديمقراطية التي أعلنت ميركل دعمها لها، وراحت تنتقد في ردود أفعال حكومة العدالة والتنمية ضد انقلاب كاد أن يفتك بهم وبالتجربة الديمقراطية بأكملها في تركيا.
الغرب ترك الانقلاب ويهدد الحكومة المنتخبة
بحسبة بسيطة يمكن أن تستنج كم التصريحات التي صدرت مؤيدة للحكومة المنتخبة من قبل الغرب في مقابل التهديد والوعيد واللوم الموجه لتركيا بسبب إجراءات مواجهة الانقلاب في المؤسسات التركية.
ففي مقابل كل تصريح روتيني لحفظ ماء الوجه داعم للحكومة التركية، تجد عشرات التصريحات المذيلة بالتهديد والوعيد تارة بفقدان أمل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي إذا أقر البرلمان التركي المنتخب عقوبة الإعدام، وتارة بفقدان عضوية الناتو كما هددت الولايا المتحدة مؤخرًا، مرروًا بالاستنكارات والاستهجانات المتوالية من مسؤولين غربيين بسبب الإجراءات التركية الاحترازية لمواجهة انقلاب دموي كاد أن يدمر التجربة الديمقراطية والاقتصادية لتركيا في بضع ساعات.
طريقة التعاطي الغربي مع هذا الحدث مبررها الوحيد الفجور في الخصومة، في الوقت الذي تزيح فيه الغبار عن وجه حقيقي لديمقراطيات الغرب المدعاة التي لا تريد أن تتخطى هذه الديمقراطيات حدودها بأي حال.
كل هذا الكم الهائل من الاستنكارات والشجب يصدر من الغرب في أقل من يومين ضد أردوغان وحكومته لمجرد إرادة حماية النظام الديمقراطي، في مقابل صمت مطبق على جرائم نظام فاشي في مصر قتل المئات وسجن أضعافًا أضعافًا ممن تم توقفيهم في تركيا، وهذا الغرب نفسه هو الذي صمت عن فعل حقيقي أمام قتل بشار الأسد لأكثر من ربع مليون من شعبه، وتشريد أكثر من 4 ملايين آخرين.
إننا أمام ازدواجية فاضحة في المعايير، وانكشاف لعورات الأنظمة الغربية التي تدعي القيم والمثل، وفي الحقيقة الأمر لا يعدوه كونه مساحيق تجميل تدهس أمام معايير الخصومة والمصلحة، إنا ما كشفه انقلاب تركيا الفاشل للسياسيين الوطنيين في خارج حدود الغرب، أن عليهم ألا يعبأوا بموقف الغرب أمام مصالح شعوبهم وبلادهم، لأن هذه المواقف لا يعو على مبدأ واضح فيها، وإنما كما ظهر في محاولة الانقلاب التركية، الوقوف أمام إرادة الشعوب طالما تريد التحرر خارج سلطانها.