“إن المؤسسين الحقيقيين للأرض الجديدة القديمة هم مهندسو المياه فعليهم يتوقف كل شيء” مقولة قديمة لمؤسس دولة الكيان الصهيوني تيودور هرتزل، خطها في العام 1902م بكتابه “الأرض الجديدة القديمة”، ربما تم إغفالها في سياق تاريخي لإنكار فكرة أن دولة الكيان تعمل وتبني نفسها تباعًا، وفقًا للنبوءات الألفية المذكورة في كتابهم المقدس من ناحية، وبقيام مملكة إسرائيل الكبرى أو الجديدة من ناحية أخرى، وهو سياق توارتي تتحرك بموجبه دولة الكيان خطوة خطوة بحذر شديد، لتنفيذ مخططاته للهيمنة على الشرق الأوسط الجديد، وتدشين دولتهم الكبرى من النيل للفرات.
إيلات – أشدود وأرض الميعاد
آخر تلك الخطوات هو فكرة طريق “إيلات – أشدود” للربط بين البحرين الأحمر والمتوسط، والتي أكدت دولة الكيان أنه في حال نجاحها ستقضي تمامًا على قناة السويس بمصر، وهو ما يثبت أن مشاريع ربط البحار المماثلة لمشروع إيلات – أشدود، ومشروع قناة البحرين، كانت أحد أحلام قادة الحركة الصهيونية الحديثة وبينهم هرتزل.
لكن ما مقومات نجاح الفكرة وإمكان تطبيقها؟ وهل ستقف مصر وباقي الدول العربية موقف المتفرج منها مثلما تفعل الآن مع سد النهضة؟
في البداية علينا أن نثبت مدى ارتباط الفكرة بالنبوءات التوراتية البعيدة عن الواقع تمامًا، عبر شواهد منطقية أهمها قيام دولة الكيان ذاتها كـ “إنجاز للنبوءة التوراتية”، بحسب وصف الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريجان.
تلك النبوءات لم تغفل المشاريع الاقتصادية التي تعكف كل من الولايات المتحدة وإسرائيل على إعدادها في المنطقة، في سياق مشروع الشرق الأوسط الجديد، وتمكين إسرائيل من العالمين العربي والإسلامي، وهي فكرة حاول رئيس وزراء الكيان بنيامين نتنياهو تطبيقها في العام 2003 حينما كان وزيرًا للمالية وقتها، بعد أن عرضها على الرئيس الأمريكي الأسبق بوش الابن ضمن فكرة الشرق الأوسط الجديد، والقائمة في الأساس على نقل الهيمنة الاقتصادية من الدول العربية لدولة الكيان، عبر إنشاء شبكة من الطرق البرية والقنوات المائية، التي تربط اقتصاديات دول المنطقة بشبكة من المشاريع والأسواق الاقتصادية، التي تتحكم بها الشركات الأمريكية والإسرائيلية الكبرى، بهدف السيطرة تمامًا على الشرق الأوسط.
خطط معلنة
الكارثة أن هناك أقلام إسرائيلية كثيرة أعلنت عن تلك المخططات صراحة، وكأنهم يدركون أن العرب لا يقرأون أو يتعلمون من مآسيهم، حتى إن الكاتب والمهندس الإسرائيلي “جاد جزيت” خبير البينة التحتية، أعلن في العام 2013 عن تفاصيل المخطط الذي بموجبه سيعاد رسم خارطة الشرق الأوسط، بينها بعض المشاريع التي من خلالها ستتمكن إسرائيل من فرض حصار اقتصادي حول مصر، أهمها على الإطلاق مشروع سكك حديد “إيلات – أشدود”، و”قناة البحرين” التي ستربط البحر الأحمر بالميت، اللذين سيؤثران على قناة السويس، بالإضافة إلى مشروع مطار إيلات العقبة” التي حلمت به إسرائيل منذ عقدين من الزمان.
جزيت أكد أن بداية المشروع النكبة ستكون بإقامة خط سكة حديد بدلاً من الخط البحري، يربط بين مينائي “أشدود” و”إيلات”، لإلغاء ميزة قناة السويس المصرية، بالإضافة إلى نشر مراكز تسويق وتجارة في عدة دول إفريقية لصالح ميناء إيلات، واستثمار الخط في نقل النفط العراقي، إضافة إلى مشاريع أخرى تمكن إسرائيل من التحكم بخطوط نقل حركة الصادرات والواردات، وبالتالي تكبيل اقتصاديات الدول العربية، وجعلها تحت رحمة إسرائيل والولايات المتحدة.
عقبات كبرى
توقعات جزيت قضت بأن تقوم دولة الكيان بنهاية العام 2017 على أقصى تقدير بإمداد العديد من الدول وعلى رأسها مصر والأردن وتركيا بالغاز الطبيعي، وهو ما تحقق هذا العام بالفعل، كبداية للهيمنة الاقتصادية، ومن هنا جاءت فكرة بناء خط سكة حديدي للشحن، ليربط المسافة المقدرة بحوالى 300 كم بين إيلات وأشدود، وبناء أكثر من 63 جسرًا، و5 أنفاق، وهنا تظهر عقبات تحقيق المشروع البحري على الأقل في المدى الزمني القريب، وهي أن تكلفة هذا الممر الملاحي عالية جدًّا تقدر بالمليارات، ولا يوجد أي جهة تستطيع أن تتحمل تلك التكاليف، حتى البنك الدولي، باستثناء الدور الأمريكي والصيني بالطبع، حيث يتطلب المشروع صنع أنابيب تبدأ من البحر الأحمر إلى البحر الميت، وتحويل الممر الملاحي، وتوسيع ميناء إيلات لكي يتحول إلى ميناء محوري، لكي تفرغ السفن به بضائعها بدلاً من مينائي دمياط والسويس.
أضف إلى تلك الصعوبات حقيقة أن القناة الإسرائيلية الجديدة كانت يجب أن تمرّ في صحراء النقب، وهو ما لم يكن متوفرًا تقنيًّا بطبيعة الحال، فطول مسافة القناة أكثر من 300 كيلومتر، وهي مسافة كبيرة كذلك ستضطر خلالها للمرور فوق أراضٍ يصل منسوبها إلى أكثر من 600 متر فوق منسوب البحر، كما ستواجه السفن المارَّة في القناة مشكلة أنَّ بعض المناطق المرتفعة سيتمّ رفع السفن فيها عن طريق عدد كبير جدًا من الأهوسة، وهو ما لم يكن متوفرًا كذلك.
ويقع ميناء إيلات البعيد عن المراكز السكانية الرئيسية في “إسرائيل” على البحر الأحمر، أما ميناء أشدود في الجهة الأخرى من إسرائيل “الشمال” فهو ميناء على البحر المتوسط، وهكذا تعتزم إسرائيل مدّ خطٍّ بريّ موازٍ لقناة السويس بين إيلات وأشدود وتلّ أبيب، مرورًا بمدن أخرى مركزية مثل بئر السبع وديمونه بصحراء النقب.
غير مجد
لن نخالف الواقع إذا أكدنا أن المشروع لا علاقة له بمنافسة قناة السويس من أية جهة، ولا يمكنه واقعيًا كذلك، فالقناة المصرية يمر منها ما نسبته من 8 إلى 12% من إجمالي حجم التجارة العالميَّة، وتغطي هذه النسبة ما نسبته 52% تقريبًا من حجم البضائع المتداولة في العالم، بالتالي أن يكون الخط البريّ منافسًا لقناة السويس، فهذا يعني عدة أشياء، لا يرى العديد من المحللين أنَّها متوفِّرة فيه، أولها أن السفن التي تمر عبر قناة السويس، سفن عملاقة، تحمل حاويات عملاقة بها أطنان من البضائع، وسفينة الحاويات الواحدة تحمل 8 آلاف حاوية، ويعتبر هذا هو العدد الأدنى للسفن العملاقة، إذ إن بعض السفن تحمل 12 ألف حاوية، كما أن قناة السويس تنقل سنويًّا ما بين 18 إلى 20 ألف سفينة عملاقة، أي بما يوازي 1500 سفينة شهريًّا، بمتوسط 50 سفينة يوميًّا.
فيما سيخدم مشروع الخط البري الإسرائيلي يوميًّا حوالي 50 حاوية فقط، ناهيك عن أن شركات الشحن العالمية لن تفضل مسار الشحن البري الذي تدشنه إسرائيل، وستواصل الاعتماد على قناة السويس، لأن الشحن البري لحمولة سفينة عبر إيلات قد يستغرق 21 يومًا بينما عبور سفينة واحدة في قناة السويس لا يستغرق أكثر من 14 ساعة فقط، يضاف إلى ذلك أن تكلفة تفريغ وشحن حاوية واحدة فقط قرابة ألف دولار، بينما تبلغ كلفة الحاوية الواحدة 30 دولارًا فقط.
مكاسب داخلية
إذًا لماذا تصر إسرائيل على مشروعها تلك وترتعد منه مصر؟
الإجابة بسيطة وهي أن فائدة المشروع ستكون أولاً على الداخل الإسرائيلي، حيث إن إيلات بعيدة عن المراكز السكنية، والمشروع سوف يتم ربطه بشبكة النقل والمواصلات الداخلية في إسرائيل، ومن المتوقع للمشروع أن ينتقل عبره 3.5 مليون إسرائيلي، كذلك من المتوقع أن يتمّ تعمير الجنوب الإسرائيلي بمليون مستوطن، وإنشاء منطقة صناعية، وهذا التوزيع السكاني الجديد سيكون له مردود اقتصادي منعش لإسرائيل، ناهيك عن الشراكات الاقتصادية مع دول كُبرى كالصين والهند، وهذا الخطّ سيسهل على إسرائيل نقل الغاز من سواحل البحر المتوسط إلى البحرالأحمر، خصوصًا أنه تم اكتشاف عدة حقول على سواحلها، وعسكريًا ستكون شبكة المواصلات الإسرائيلية الداخلية مترابطة تمامًا، وسيسهل على إسرائيل سرعة انتقال وتعبئة قواتها من الشمال إلى الجنوب، وسيضمن لها ظهيرًا قويًّا في حال نشوب أية حروب مستقبلية في المنطقة.
ما سبب الخوف المصري إذًا؟ هنا نؤكد أن كل الدول العربية وليست مصر وحدها، تدرك أن إسرائيل لا تقدم على خطوة جريئة كهذه دون فوائد كبيرة جدًا بعيدًا عن فوائدها العمرانية والاقتصادية والعسكرية الداخلية، ربما تكون خفية الآن، لكنها حتمًا ستظهر قريبًا جدًا.