انجلت ليلة عصيبة مرت بها تركيا (مساء 15 يوليو 2016) عن فشل ذريع للمحاولة الانقلابية التي قامت بها بعض وحدات منتمية للجيش ضد الحكومة الشرعية المنتخبة، سقطت المحاولة الانقلابية وغرقت بعد ساعات قليلة بفضل اليقظة الشعبية، وبفضل التكاتف بين جميع أطياف المجتمع السياسي من الحكومة وأحزاب المعارضة ووسائل الإعلام والنخب الفكرية والسياسية، وعادت الأمور سريعًا إلى طبيعتها بعد ليلة دامية قضى فيها 265 ضحية، وتحولت ليلة المحاولة الانقلابية إلى عرس ديمقراطي للشعب التركي الذي برهنت قواه الديمقراطية على أن العودة إلى زمن الانقلابات باتت عسيرة.
السؤال الكبير الذي يحتاج إلى كثير من المناقشة بعد اندحار المحاولة الانقلابية هو: هل كانت هذه المحاولة تهدف للإطاحة بالحكومة واستلام السلطة على طريقة الانقلابات العسكرية السابقة التي عرفتها تركيا منذ سنة 1960م أم كان لها هدف آخر؟
إذا قرأنا بدقة تفاصيل هذه المحاولة الفاشلة، سنجد أن هدفها المرسوم كان يتمثل في: شق الجيش التركي إلى قسمين يقاتل أحدهما الآخر، الأول مؤيد للمجموعة الانقلابية، والثاني مؤيد للنظام القائم، وبذلك تدخل تركيا في حالة “حرب أهلية” طاحنة، وفوضى عارمة تضعها على طريق “العراق، وسوريا، وليبيا، واليمن”، ثم تتداعى الأحداث في سياق هذا السيناريو، وينفتح الباب واسعًا أمام التدخل الدولي وسقوط التجربة التركية.
هذا في أغلب الظن هو السيناريو الذي يفسر كثيرًا من الأحداث التي بدت للمراقبين غير مفهومة، أو لا تحمل بصمات الانقلابات العاصفة المحترفة التي شهدتها تركيا قبل ذلك وكانت تطيح بالحكومة وتقبض بيد من حديد على البلاد خلال ساعات محدودة دون مقاومة تذكر.
ولكن، أن تخرج مجموعة عسكرية ببعض المعدات والأسلحة بما فيها طائرات حربية وأسلحة ثقيلة، وتستخدمها في قصف مؤسسات الدولة السيادية ومنها البرلمان ومنشآت أمنية، وتطلق النار على المواطنين وتقتلهم، وتحتجز رئيس أركان الجيش دون المساس بحياته، ويشاهد العالم الصور المهينة لاستسلام قائد الانقلاب رئيس سلاح الجو السابق والجنود والضباط الذي شاركوا في التحرك الانقلابي، فهذا كله يعني شيئًا واحدًا هو: أن العقل المدبر لهذه الحركة الانقلابية إنما أراد لها “نصف نجاح ونصف فشل” بحيث تكون النتيجة هي إحداث شق في صفوف الجيش وفي عدد آخر من مؤسسات الدولة، وخاصة المؤسسة الأمنية والمؤسسة القضائية، ليدخل كل شق في مواجهات دموية مع الشق الآخر وتدخل البلاد في احتراب أهلي وفوضى.
ومما يؤكد هذا السيناريو عدم إقدام القوة الانقلابية على البدء أولًا باعتقال المسؤولين الكبار في الدولة وخاصة رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ورئيس البرلمان، وعزلهم عن العالم، ثم الإعلان عن سيطرتهم على السلطة، والاعتماد على وحدات من القوات الجوية، لا البرية كما كان معهودًا في الانقلابات السابقة، لم يحدث شيء من هذا، ولا نظن أن عدم حدوثه كان بسبب غفلة الانقلابيين عنه، أو لسذاجتهم أو عدم “احترافيتهم” في صنع الانقلاب كما تردد في تحليلات بعض الخبراء.
الأرجح أن العقل المدبر لهذه المحاولة الانقلابية لا يمكن أن يكون “تركيًا” فقط، لا من الذين يعيشون داخل تركيا ولا من الذين يعيشون خارجها وحدهم، إن وقائع الساعات التي استغرقتها المحاولة الانقلابية تؤكد أن للانقلابيين شركاء إقليميين ودوليين، وأن هؤلاء الشركاء كانت لهم اليد العليا في رسم تفاصيل المخطط الانقلابي ووضع هدفه الرئيسي الذي يتمثل في إدخال تركيا في حزام الفوضى والاحتراب الأهلي، وليس بالضرورة إزاحة النظام القائم تمامًا.
نفترض ـ ونرجح – أن العقل المدبر لهذه المحاولة الانقلابية بقسميه: المحلي والأجنبي، كان يدرك تمامًا أن تنفيذ انقلاب ناجح وكامل الأركان على الطريقة “التركية” المعهودة أمر غير مرغوب، فضلًا عن أنه أمر عسير المنال من جهة، وقليل الفائدة للمكون الأجنبي من العقل الانقلابي من جهة أخرى، وهذا ما يفسر المفارقات والمشاهد اللامعقولة لتحركات الانقلابيين وسلوكياتهم أثناء القبض عليهم، كما يفسر مواقف القوى الدولية والإقليمية الغامضة والمترددة في إدانة ما حدث فور وقوعه.
هذا السيناريو الذي كان يهدف لإيقاع الانقسام داخل مؤسسات الدولة وخاصة المؤسستين العسكرية والأمنية لإدخال البلاد في دوامة الاحتراب الأهلي وضمها إلى حزام الفوضى العارمة التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، فوجئ بردة فعل شعبية لم تكن في حسبانه، وفوجئ بتماسك القيادة السياسية (حكومة ومعارضة) تماسكًا غير مسبوق، وكان تعويل العقل المدبر للانقلاب كبيرًا على ضرب حزب العدالة وحكومته بأحزاب المعارضة وأتباعها، وخاصة حزب الشعب الجمهوري خصمه العتيد وحزب الحركة القومية وحزب الشعوب الديمقراطي الكردي.
حدثت المفاجأة وجاءت ردود الفعل الأولى للقيادة السياسية وللأحزاب وللجماهير الشعبية موحدة ومتماسكة على غير ما توقع مخططو الانقلاب، وهذا ما يفسر ـ مرة أخرى ــ تردد القوى الدولية الأوربية والأمريكية وتراخيها عن المبادرة بإدانة المحاولة الانقلابية فور وقوعها انتظارًا لتسلسل الأحداث في طريق الاحتراب الأهلي المرسوم.
لم يأخذ العقل المدبر للانقلاب في حسبانه اعتبارات كثيرة وحاسمة، من أهمها أثر ثورة الاتصالات وما يمكن أن تسهم به في توجيه الأحداث على نحو ما ظهر في المكالمة الهاتفية للرئيس أردوغان عبر الفيس تايم مع إحدى المحطات التلفزيونية المحلية في تركيا، وحجم الإنجازات الاقتصادية والحضارية التي حققتها حكومات العدالة والتنمية المتعاقبة لعموم المواطنين منذ سنة 2002م، والأهم من ذلك كله في رأينا: أثر المخزون الهائل من الخبرات السيئة والذكريات المؤلمة التي عاشها الشعب التركي من جراء الانقلابات العسكرية السابقة وخصوصًا انقلاب كنعان إفرين الذي وقع في 12 سبتمبر سنة 1980م.
ويكفي أن نعيد التذكير هنا فقط بجوانب مهمة من فاتورة انقلابه سنة 1980م لمعرفة لماذا تصدت جماهير المواطنين الأتراك للقوات الانقلابية بالجسارة التي شاهدها العالم في الشوارع والميادين، ولماذا استجابت لنداء القيادة السياسية وطرحت خلافاتها السياسية معها في لحظات الانقلاب العصيبة.
تقول الوثائق الرسمية بشأن ضحايا انقلاب سنة 1980م إن الانقلابيين قاموا بالآتي:
– اعتقال 650 ألف مواطن ـ إدراج 1.680.000 (مليون وستمائة وثمانون ألف) مواطن في القوائم السوداء لدى السلطات الأمنية.
– محاكمة 230 ألفًا في قضايا سياسية ولكن باتهامات جنائية ـ- الحكم على 517 بالإعدام.
– تنفيذ حكم الإعدام في 50 محكومًا منهم، فصل 30 ألف موظف من أعمالهم.
ـ تجريد 14 ألف مواطن من الجنسية التركية.
ـ تصنيف 98 ألفًا وأربعمائة وأربعة مواطنين والتحقيق معهم بدعاوى انتمائهم لجماعات إرهابية.
ـ إدانة 21 ألفًا و764 بتهمة الانتماء لجماعات إرهابية.
– استدعاء 29 ألفًا من المواطنين الأتراك المقيمين بالخارج للتحقيق معهم في تركيا ووضعهم على قوائم الترقب والوصول.
– سحب جوازات السفر من 338 ألف مواطن.
– إغلاق 23 ألفًا و700 منظمة ومؤسسة خيرية في أنحاء البلاد، التحقيق مع أعضاء 644 منظمة خيرية.
– وفاة 146 مواطن في ظروف غامضة.
– وفاة 14 مواطنًا أثناء إضرابهم عن الطعام في أماكن الاحتجاز.
– قتل 16 مواطنًا أثناء محاولتهم الفرار.
– وفاة 74 مواطنًا أثناء الصدام مع قوات الأمن.
– وفاة 73 مواطنًا في أماكن الاحتجاز ادعت السلطات أن موتهم كان طبيعيًا.
– وفاة 43 مواطنًا ادعت السلطات أنهم انتحروا.
– مقتل ثلاثة صحفيين (فقط) في مواجهات مع قوات الجيش.
– وفاة 171 مواطنًا تحت التعذيب على أيدي قوات الأمن.
– الحكم على 18 ألفًا و525 من الجيش والشرطة بالبراءة من جرائم وجنح مختلفة ضد المواطنين بدعوى قيامهم باستخدام حقهم في “الدفاع عن النفس” إبان حوادث الانقلاب.
– تعرض 3854 مدرسًا لإجراءات تعسفية باسم تطبيق القانون.
ـ عدد الموظفين العموميين الذين تم نقلهم إلى مناطق أخرى للعمل بلغ 7233 موظفًا.
– إقالة 4891 موظفًا حكوميًا واعتقال 31 صحفيًا لمدد طويلة.
ـ عدد أحكام الإعدام التي صدقت عليها المحكمة العسكرية 124 حكمًا.
– الحكم على 259 مواطنًا بالإعدام دون إخطارهم بهذا الحكم، إعدام 18 مواطنًا يساريًا.
ـ إعدام 8 مواطنين من الاتجاه المحافظ.
– حظر عرض 900 فيلم سينمائي.
– حرق 30 ألف طن من الكتب والروايات والمسرحيات والمؤلفات الدينية والشيوعية في أشهر ميادين أنقرة وإسطنبول حتى إن دخان الحرائق كان يتسبب في اختناق بعض السكان القريبين من تلك المحارق.
كل هذا رسَّبَ مخزونًا هائلًا من الألم والذكريات المروعة والكراهية العامة للانقلابات العسكرية لدى السواد الأعظم من الأتراك، وهذا يضاف إليه ما آلت إليه أحوال تركيا في نهاية التسعينات، ووصولها إلى حافة الإفلاس، وإخفاق كمال درويش وهو أكبر خبير اقتصادي تركي في عمل أي شي لإنقاذ البلاد إبان حكومة مسعود يلماظ الأخيرة قبل وصول حزب العدالة للحكم في انتخابات سنة 2002م.
فشلت المحاولة الانقلابية لهذا السبب وللأسباب الأخرى التي أسهب المحللون في الحديث عنها، ولا نظن أن تركيا بعد ليلة الخامس عشر من يوليو2016 ستكون كما كانت قبلها أبدًا، فمجمل التطورات الجارية لتصفية آثار تلك المحاولة الفاشلة ترسم بوضوح الملامح الجديدة لوجه تركيا.
وأهم هذه الملامح في رأينا هو أن كل شيء في تركيا يتغير إلى الأحسن بمعايير التحول والرسوخ الديمقراطي والحريات العامة والخاصة، حتى المؤسسة العسكرية العريقة والمؤسسة القضائية العتيدة ، وهما أهم مؤسستين خرجت منهما المجموعة الانقلابية، تخضعان لحركة تطهير واسعة النطاق، ومن ثم ستكونان قيد التغيير إلى الأحسن أيضًا، بعد أن طال وقوفهما في مربع “الوصاية” على الشعب، والاستعلاء على إرادته الحرة منذ عهد مؤسس الجمهورية كمال أتاتورك، هذا هو الملمح الأوضح والأهم الذي تكشف عنه الأحداث الجارية عقب فشل المحاولة الانقلابية.
المعركة لا تزال مستمرة، والأتراك بمختلف توجهاتهم السياسية لا يزالون في حالة ترقب وانتظار النتائج التي ستسفر عنها هذه المعركة بين أنصار الحرية والديمقراطية وحكم القانون وولاية الشعب على نفسه، وأنصار الاستبداد وحكم العسكر وفرض الوصاية على الشعب، ولكن هل معنى ذلك أن عصر الانقلابات العسكرية قد انتهى إلى غير رجعة في الحياة السياسية التركية؟
أنصار الإصلاح السياسي وقوى التغيير الديمقراطي داخل تركيا وخارجها يتمنون أن تكون الإجابة “نعم”، وخاصة بعد أن ذاق الشعب التركي حلاوة ممارسة حقه في الولاية على نفسه واختيار حكامه، وهم يرفعون في مظاهراتهم شعارًا يقول “70 مليون خطوة ضد الانقلابات العسكرية”، “و70 مليون خطوة إلى الأمام على طريق الديمقراطية”، في إشارة إلى اتساع الإجماع الشعبي حول رفض تدخل العسكر في الشئون السياسية (عدد سكان تركيا حاليًا 70 مليون نسمة تقريبًا).
أما أنصار الحكم الشمولي الاستبدادي فيتمنون أن يفلت الضالعون في المحاولة الانقلابية من المحاسبة والعقاب، كراهيةً للقوى الإصلاحية والديمقراطية التي أتت بها الانتخابات الحرة إلى سدة الحكم عدة مرات على التوالي، وكراهيةً في المؤسسات النيابية التي أتاحت للشعب حرية الاختيار، ويحلمون أيضًا بأن ترجع عقارب الساعة إلى زمن الانقلابات، وفرض وصاية العسكر، والتحكم في مصيره.
فهل ستكون الغلبة لأنصار الديمقراطية وحق الشعب في تقرير مصيره، أم لأنصار الانقلابات العسكرية وفرض الوصاية على الشعب؟
المصدر: المصريون