يبدو أن تركيا ما بعد 16 يوليو 2016 قد تكون مختلفة تمامًا عما قبل هذا التاريخ، فالانقلاب العسكري الفاشل الذي شكل وسيشكل بدون أدنى شك حدثًا مفصليًا في تاريخ تركيا الحديث، ليس فقط بسبب حجم السجال والمتابعة الإعلامية التي لازمته داخليًا وخارجيا، لكن أيضًا باعتباره يأتي كتجسيد للصراع بين فكرتين متناقضتين، الأولى منبثقة عن تيار ما يصطلح عليه تركيًّا بالكيان الموازي الذي يتزعمه الداعية الصوفي فتح الله كولن والذي لديه امتدادات خفية ومعقدة في المؤسسة العسكرية والقضاء وباقي أجهزة الدولة أو ربما ارتباطات خارجية بحسب الرواية الرسمية التركية، والثاني يمثل الديمقراطية التركية المتأصلة في المجتمع التركي الذي تشرب من معينها وعرف جيدًا قيمتها وهبَّ مسرعًا للدفاع عنها بصدور عارية في مواجهة الدبابات والمدرعات، مدركًا مخاطر الحكم العسكري على الحريات وما تحقق من مكاسب اقتصادية وتنموية خلال العقد والنصف الأخيرين، مما جعل من تركيا أنموذجًا يمكن الاقتداء به، مقدمًا بذلك درسًا بليغًا لكافة دول العالم بما فيها أعتى الديمقراطيات في الدفاع عن قيم الحرية، بغض النظر عما يمكن أن يقال عن طرق تدبير الرئيس أردوغان أو مساعيه لتحويل تركيا إلى نظام رئاسي أو العمل على تقويض الأسس العَلمانية الأتاتوركية للدولة.
فحجم الإجماع المنقطع النظير الحاصل على مستوى كافة القوى السياسية بخصوص رفض فكرة الانقلاب والدفاع عن الشرعية الدستورية، وحجم التعبئة الشعبية، أضف إلى ذلك حجم التعاطف الدولي الواسع النطاق واستنكاره لمحاولة الانقلاب العسكري، لا يمكن أن يمر كل ذلك دون أن يتم استغلاله من قبل الرئيس أردوغان بهدف تقليم أظافر المؤسسة العسكرية وتنظيفها مرة واحدة وإلى الأبد كما قال في أحد خطاباته التي أعقبت فشل الانقلاب، وإعادة صياغتها على أسس جديدة بما يضمن ولاءها للوطن وحده والدفاع عن مقدساته وحدوده الجغرافية بعيدًا عن أي تدخل في الحياة السياسية، مستخدمًا في ذلك كافة الوسائل بما فيها حملات توقيفات واعتقالات أمنية واستخباراتية واسعة النطاق للداعمين أو المشاركين في الحركة الانقلابية التي كادت أن تعيد تركيا عقودًا إلى الوراء، وبما في ذلك أيضًا السعي إلى إعادة العمل بأحكام الإعدام التي باتت مسألة إقرارها وشيكة حتى لو تم رفضها أوروبيًا، باعتبارها كإجراءات عقابية وردعية لضمان عدم تكرار أي محاولة انقلابية مستقبلاً أو على الأقل لجعل هذه الفكرة باهظة الكلفة ومحفوفة بالمخاطر.
مما لا شك فيه أن الثورات التي تحمل قيمًا كونية كالديمقراطية أو الحرية غالبًا ما تخضع في عمومها لمنطق الامتداد والتوسع الجغرافي، ولا تعترف بحدود الدولة القطرية، كما هو حال الثورة الفرنسية أو ثورة البوعزيزي في تونس والتي سرعان ما امتدت رياحها لتطال كافة الدول العربية على اختلاف الدرجات.
غير أن فشل محاولة الانقلاب بشكل سريع ونجاح معركة الدفاع عن الديمقراطية في تركيا والتي يمكن اعتبارها بمثابة ثورة جديدة سيكون لها ما بعدها، وقد تؤسس لعهد جديد تكون فيه تركيا أكثر قوة وتماسكًا، حيث لا يمكن أن يمر كل ذلك دون أن تكون له تداعيات واضحة سواء على المحيط الإقليمي أو الدولي سيما على مستوى الدول العربية التي لا تزال تشهد ثورات مضادة للربيع العربي سواء في الجوار السوري أو العراق أو في الدول التي تعرف حكمًا عسكريًا كما هو الحال في مصر بقيادة الجنرال السيسي، أو ليبيا بزعامة الجنرال خليفة حفتر الساعي إلى إقامة حكم عسكري، أو الثورة المضادة في اليمن بزعامة قوات صالح وحلفائه الحوثيين، أو ربما حتى على مستوى الدول الداعمة للانقلابات العسكرية أو الممولة لها والتي تخشى من فكرة الديمقراطية، وهو ما انعكس فعليًا على شكل دعم إعلامي للعملية الانقلابية منذ بدايتها بشكل بعيد كل البعد عن المهنية والموضوعية وإلى درجة وصلت حد التخبط واستباق الأحداث كما ورد في كثير من المنابر الإعلامية.
من جهة أخرى يمكن القول أن نجاح عملية إحباط الانقلاب العسكري على الرغم من حجم الغموض والتعقيد الذي لا يزال يكتنف ملابساته وخيوطه والذي لا يزال الوقت مبكرًا لمعرفة تفاصيله وحيثياته، قد يلقي أيضًا بظلاله على العلاقات الدبلوماسية والتعاون المشترك للجمهورية التركية خصوصًا إذا ما ثبت أن هناك دعم خارجي من دول أجنبية خصوصًا إذا أخذنا بالاعتبار أن أي محاولة لإغلاق مضيق البوسفور الحيوي أو أي تحرك عسكري تركي مهما كان صغيرًا أو كبيرًا لا يمكن أن يحصل دون رصد أو علم قيادة الناتو التي تملك وجودًا عسكريًا بقاعدة “أنجرليك” التركية وهو ما ستكشف عنه التحقيقات الجارية في الأيام المقبلة.
بغض النظر عن حجم السجال الدائر حول استغلال عملية الانقلاب في تصفية الخصوم السياسيين أو العسكريين أو الإمعان في تنظيف أسلاك القضاء والشرطة، إلا أن هذا الحدث التاريخي قد يكون مبعث أمل ومصدر إلهام للعديد من الشعوب التواقة للديمقراطية أو التي ضاقت ذرعًا بالحكم العسكري فضلاً عن اعتباره بمثابة مؤشر قوي على بداية نهاية عهد الانقلابات العسكرية ولفظها، والتي غالبًا ما يرتبط حكمها بالحروب الأهلية وضعف التنمية ومصادرة الحريات وتهريب الثروات… إلخ.