مع الوقت تتكشف الكثير من الخبايا المتعلقة بمحاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا، ويتضح أيضًا حجم وخطورة وتعقيدات المؤامرة التي حيكت لإسقاط تركيا الجديدة وإعادتها إلى ما كانت عليه قبل عقدين، التقارير الموضوعية التي ينشرها بعض المراقبين الأتراك، تشير إلى تورط أطراف دولية وداخلية عديدة في محاولة الانقلاب، منها قيادات عسكرية كبيرة أوهمت الرأي العام بأنها رفضت الانقلاب كي تنجوا من تبعات فشله، قد تتمكن الحكومة التركية من الكشف عنهم في القريب العاجل، وليس صحيحًا أن جماعة فتح الله غولان وحدها من قادت الانقلاب لعدم منطقية ذلك وعدم إمكانيته، لكن هذا لا يعني أنه لا يوجد أنصار وجيوب خفية للجماعة داخل مؤسسة الجيش.
محاولة الانقلاب تم التخطيط لها بعناية عز نظيرها، دل على ذلك الاستهداف المتزامن لسبعة أهداف حيوية واستراتيجية، تمثل عصب القوة للدولة، وهي السيطرة على رئاسة الأركان في أنقرة، وقصف مبنى البرلمان، وقصف القصر الرئاسي، والسيطرة على الشبكة الإعلامية الرسمية (شبكة TRT بقنواتها العشر) ومحاولة اغتيال الرئيس أردوغان، والاستيلاء على المطار، وإغلاق جسري إسطنبول اللذًين يعتبران شرياني الحياة للمدينة ذات الملايين الخمسة عشر، ومحاولة تدمير مقرات القوات الخاصة وجهاز الاستخبارات وكلاهما موالي للحكومة، وهما أهم وأخطر جهازان في معادلة القوة كان الانقلابيون يخشونهما.
المتبصر في تلك الخطة الخطيرة يصل لحقيقة مفادها أن الاقلاب كاد بالفعل أن ينجح، وليس صحيحًا أن نجاحه كان بعيد المنال كما يحاول البعض التقليل من خطورته والتهوين من شأنه، ولا سيما بعض المسؤولين الأتراك الذين سعوا بذكاء وحنكة خارقين إلى مداراة الجيش ومسايسته تجنبًا للصدام معه، ولا سيما في هذا الظرف الاستثنائي الحساس الذي تمر به البلاد.
فقسم كبير من قيادة الجيش وبعض الأطراف السياسية التزمت الصمت الكامل أثناء جهود الانقلاب، وتم تقديم صغار الضباط كقرابين أو تم الدفع بهم إلى الواجهة، بحيث لو نجحت جهودهم سيهرول الجميع لتبني النتائج التي خلص إليها الوضع الانقلابي القائم، الكشف عن هذه الأطراف بسرعة قد يتسبب في صدام بين الحكومة ومؤسسة الجيش، وهو ما تسعى الحكومة جاهدة إلى تجنبه وعدم الانزلاق به، لأنها تعرف نتائجه مسبقًا، لكن الذي لا شك فيه أن حكومة العدالة والتنمية ستلجأ لسياسة الطهي على نار هادئة، التي اتبعتها منذ توليها للحكم عام 2002، وهي سياسة مجدية جلبت لها وللبلاد منافع كثيرة ودرأت عنها الكثير من المفاسد أيضا.
ما الذي كان سيحدث لو نجح الانقلابيون في مسعاهم وتولوا مقاليد الحكم في البلاد؟ وأي صورة كانت ستكون عليها تركيا بعد الجديدة؟ سيناريوهات مرعبة ونتائج مذهلة كانت ستظهر لو قدر للانقلاب النجاح، نتائج لم تكن لتنعكس على البنية الداخلية التركية وحسب، بل ستغير مشهد المشهد السياسي في المنطقة بكاملها ولا سيما الجوار الشرق أوسطي، فلو نجح الانقلاب في تركيا:
– لفقدت البلاد والشعب والأحزاب السياسية مكتسبات عظام رسختها الحكومة بجهود مضنية على مدى عقد ونصف، إنجازات لم تكن تحلم بها على مدار عقود، أهمها قيمة الديموقراطية والدولة المدنية التي غابت عن تركيا نحو 80 عامًا.
– لألغيت الأحزاب السياسية وحظر العمل السياسي، وتغول العسكر على كل مناحي الحياة السياسية، ولعاد نظام الحزب الواحد الذي أوصل تركيا لأسوأ حالاتها على الإطلاق.
– لتبخر مكتسب الحريات الشخصية والدينية والإعلامية، ولبات صوت واحد يسمع وهو صوت سلطات الأمر الواقع (سلطة العسكر).
– لأصبح التدين جريمة يعاقب عليها القانون، والصلاة بالمساجد حكرًا على المسنين، وقراءة القرآن تخلفًا، ولحوربت كل مظاهر الأسلمة كما فعل الانقلابيون الأوائل الذين حاربوا الإسلام والأسلمة بكل تفاصيلها، وكُتب التاريخ توسعت في الحديث عن هذا الجانب.
– لعاد قانون التعري الإجباري، ولخلع الحجاب وطردت المحجبات من كل مؤسسات الدولة كما كانت، ولحرمت المحجبات من ممارسة حقهن في التعليم الجامعي والعمل وغير ذلك.
– لسقط نظام التعليم إلى الحضيض بعد موجة ازدهار وتطور تفتقد إليها الكثير من الدول الشرق أوسطية والنامية.
– لانهار الاقتصاد وعادت المديونية الثقيلة والفقر المدقع، ولزاد التضخم وارتهنت تركيا مجددًا لصندوق وبنك النقد الدوليين، ولعادت الليرة التركية عديمة القيمة كما كانت سابقًا، ولانتشرت البطالة، وتعاظمت أزمة المساكن، ولعادت البنوك لتمتص دماء المواطنين قبل جيوبهم.
– لانهار النظام الصحي المجاني الذي وفرته الحكومة الجديدة، وبات العلاج رحلة مريرة أو حكرًا على الأغنياء كما كان سابقًا.
– لخسر الشعب التركي الإنجازات العظيمة والمشاريع العملاقة التي أنجزتها حكومة العدالة والتنمية في ظرف قياسي، ولعادت الأزمات الحياتية اليومية المعاشة إلى أسوأ مما كانت عليه.
– لانتشر الفساد على أوسع نطاق، وأصبحت ثروات البلاد قصعه لها أكلتها من العسكر، بل من أئمة الانقلاب وحدهم.
– لعاد مسلسل الإعدامات وقانون الطوارئ كما كان سابقًا، ولزج بكل الإسلاميين والليبراليين في السجون وبات كل من ليس مع الانقلاب يعتبر ضده وبالتالي هدفًا له.
على الصعيد الخارجي فإن النتائج التي كانت ستحدث لا تقل خطورة عن تلك التي في الداخل، فلو نجح الانقلاب:
– لانقطعت آخر شعرة أمل كان المضطهدون والمظلومون في كافة أنحاء العالم يعولون عليها ويتشبثون بها، ولانكسرت شوكة الإسلاميين في المنطقة العربية تحديدًا.
– لأصبح اللاجؤون السوريون كائنات غريبة غير مرحب بها، وربما لتم إخراجهم وإعادتهم لبلادهم، وكذا اللاجؤون العراقيون وكوادر الإخوان المسلمين المتواجدين في تركيا.
– لعاد العربي في تركيا غريبًا ومكروهًا ومنبوذًا كما كان سابقًا.
– لانقطع أمل مسلمي ميانمار ومسلمي إفريقيا الوسطى، ولغاب أحد المدافعين عن قضايا الشعوب العربية العادلة ولغاب مناصري غزة.
– لأصبحت تركيا وإسرائيل صديقين حميمين وحليفين متينين، بل ربما لتحولت الأولى خادمة للأخيرة.
– ربما لتم القضاء على الثورة السورية بتحالف سلطة الانقلاب مع نظام الأسد، أو على الأقل بإغلاق الحدود بطوق حديدي ومحاصرة المعارضة.
– لقويت أعين العسكر في بلاد أخرى وتشجعوا على تكرار ذات التجربة.
– لعادت تركيا إلى حضن النانو خادمًا صغيرًا مخلصًا وليس عضوًا ندًا أو حليفًا مؤثرًا.
– لأصبح التركي في أوروبا مخلوقًا وضيعًا مكروهًا، فلا حكومة قوية تدافع عنه ولا بلد ديموقراطي يشد من أزره، بل لأصبح الانقلاب وصمة عار تلاحقه أينما ذهب، في عالم لا يحترم إلا القوي.
– لتعززت مواقع ومواقف ديكتاتوريات وطواغيت كثر، ولتآخا الانقلاب في تركيا مع نظيره في مصر، فالانقلابات على أشكالها تقع.
– لضحكت أطراف عربية كثيرة أخذت على عاتقها محاربة كل التجارب الديموقراطية التي تثمر في الدول الإسلامية فقط، دون أن تقترب مما هو دون ذلك، ولشمت الشامتون طويلاً.
نتائج مرعبة كانت ستحدث لو لم يفشل الانقلاب، لكن أما وأنه قد فشل فيتعين على تركيا العمل بجد أكثر لتفادي حدوثه، آخذة بعين الاعتبار تلك النتائج القابلة للتحقق، يجب أن تتبع استراتيجيات أكثر حكمة وروية لتطهير مؤسسة الجيش وتجنيب البلاد والعباد مآسيه التي لا تحصى.