ترجمة حفصة جودة
عندما وصلت إلى أنقرة حوالي الثالثة مساءً يوم الجمعة 15 يوليو، لم أكن أعلم بعد أن الإرهابيين سيقومون باستهداف المدينة بطائرات الـ “إف-16” وبالمروحيات خلال عدة ساعات، لقد كنت أيضًا في أنقرة عندما قامت داعش وحزب العمال الكردستاني بتفجيرات إرهابية في المدينة، لذا فهذه ليست المرة الأولى التي أشهد فيها تفجيرًا إرهابيًا داخل هذه المدينة، لكن التفجير هذه المرة كان أكبر حجمًا ورعبًا ولا يُقارن بالآخرين في عدة جوانب، ومنذ ليلة الجمعة، عرفت جيدًا ماذا يعني أن تكون تحت قصف الطائرات الحربية، أستطيع الآن أن أشعر بإخواننا وأخواتنا السوريين الذي يعيشون تحت القصف المستمر للطائرات السورية والروسية.
في يوم الجمعة 15 يوليو، لم يعلم الشعب التركي حتى العاشرة مساءً ما الذي بإمكانه أن يحدث، حتى بدأ الكابوس في العاشرة والنصف مساءً، وأدرك مواطنو الجمهورية التركية نوع الكارثة التي على وشك أن تحدث.
وكأحد السياسيين الذين عانوا من الانقلاب العسكري في 12 سبتمبر 1980، فقد أدركت حجم خطورة الإشارات الأولى، وقد كان مقدرًا أن أكون في أنقرة بينما تمر العاصمة بمحاولة انقلاب فاشية وغير إنسانية، لقد شهدت واحدة من أصعب اللحظات في تاريخ الجمهورية في تلك الليلة، والتي قام فيها مسلحون من جماعة غولن بالزي العسكري بمحاولة إحكام السيطرة على تركيا بالأسلحة الثقيلة.
هناك أشخاص من أوروبا والولايات المتحدة ممن هم على علاقة بجماعة غولن، كانوا على دراية بأجندتهم، ومن المعروف أن الجماعة تحاول التوسع باستغلال الإسلام، ولا تختلف بشكل أساسي عن المنظمات الإرهابية الأخرى مثل داعش وحزب العمال الكردستاني.
حتى لحظة الهجوم لم أستطع أن أخمن إلى أي مدى قد يتحرك مسلحو الجماعة، فهؤلاء الأشخاص يتم تدريبهم في سن مبكرة جدًا تحت ستار التعليم، وبعدها يتم تعيينهم في مختلف مؤسسات الدولة كخلايا نائمة، هؤلاء المسلحون يتم تنشئتهم وتدريبهم مبكرًا جدًت في عمر الروضة، حيث تقوم الجماعة بزرع أفكارها في تلك العقول الصغيرة وذلك بتصنيف الفتيات والفتيان إلى مجموعات مختلفة تحت سيطرة رؤوسائهم.
لم يكن لأحد أن يتوقع أن يقوم جنرالات وطيارون وقضاة وأشخاص من مختلف المهن ممن ينتمون للجماعةـ بإطاعة أوامر غولن مهما كلف الأمر والتخطيط لانقلاب في تركيا يوم 15 يوليو، وكان مستوى العمل ووحشيته يذكرنا بأفلام “blockbuster” في هوليوود، لكنه كان حقيقيًا للأسف.
المسلحون قاموا بمهاجمة فندق في مدينة مرماريس المطلة على البحر المتوسط، في محاولة منهم لاغتيال الرئيس رجب طيب أروغان وعائلته، ثم قاموا بقصف البرلمان ومحاولة قتل 100 نائب كانوا بداخله، كما قاموا بقصف قسم شرطة أنقرة، ومقر العمليات الخاصة في منطقة غولباشي بأنقرة مرات عديدة، لكن لحسن الحظ لم يتمكنوا من تحقيق أهدافهم.
هذه المحاولة الأخيرة بهذا الحجم لا يمكن مقارنتها بالانقلابات العسكرية الأخرى في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك انقلاب الجنرال الفاشل أوغستو بونيشيه، والذي أطاح بالرئيس المنتخب سلفادور الليندي في تشيلي عام 1973.
لو كان بإمكان المسلحين السيطرة على الحكومة، لدخلت تركيا في فترة مروعة، ربما أكثر قتامة من الانقلابات السابقة عام 1960، 1972، 1980، وربما لم أكن قادرًا على كتابة تلك الكلمات الآن، ولو كنت محظوظًا للبقاء على قيد الحياة، لكنت أنتظر الآن تعذيبي في أحد الملاعب، حيث سيتم اعتقال الآلاف من الناس.
لتنفيذ تلك الخطة، قام العديد من الجنرالات والأدميرالات والقباطنة والطيارين ممن قامت حركة غولن بغسل أدمغتهم، بقتل المدنيين العزل الذين حاولوا حراسة وحماية الديموقراطية بالخروج إلى شوارع أنقرة وإسطنبول، حتى تم إفشال الانقلاب نتيجة مقاومة الشعب التركي وقتال ضباط الشرطة بشجاعة.
لقد شاهدت الدبابات وهي تقوم بدهس وقتل المتظاهرين في أنقرة، ورأيت جنود غولن وهم يطلقون النار على المدنيين من المروحيات العسكرية ومن مكتب هيئة الأركان العامة بعدما قاموا باحتلاله، كانوا يتصرفون بلا إنسانية ولو بقتل آلاف من الناس لإحكام سيطرتهم، لكن تركيا – لحسن الحظ – تمتلك زعيمًا على استعداد للدفاع عن الديموقراطية مهما كان الثمن.
وبالرغم من التهديدات التي واجهها، بما في ذلك محاولة فرق خاصة القيام بقتله، ومحاولة مروحيات إف-16 إسقاط طائرته ثم محاولة قتله أثناء نزوله من الطائرة في إسطنبول، إلا أن أردوغان تمكن من التواصل مع الشعب من خلال تطبيق “FaceTime” عبر هاتفه، ثم تحدث بعدها مرتين بشكل مباشر، وقام أردوغان بدعوة الناس للنزول إلى الشوراع وحماية الديموقراطية، وبناءً على ذلك تدفق الناس إلى الشوارع رغم قيام المسلحون بفرض حظر التجوال، وبفضل شجاعة الناس، تخلصت تركيا من خطر الوقوع كضحية لفاشية غولن.
قام الملايين من الناس بمقاومة الدبابات التي حاولت إرهابهم، بينما قام رؤساء البلديات بقطع الطرق المؤدية إلى المواقع العسكرية باستخدام شاحنات ورافعات وسيارت مطافئ، كما قامت الشرطة بالمقاومة المسلحة لآلاف من المسلحين الذين يرتدون الزي العسكري، دفاعًا عن تركيا.
هرع الآلاف من المواطنين تجاه المطارات والمواقع والمكاتب العسكرية، وخاطروا بحياتهم لمنع العسكريين من التنقل، وقاموا بالعمل جنبًا إلى جنب مع الشرطة لصد محاولات اقتحام جنود غولن لبعض المؤسسات الإعلامية، ثم تجمهروا أمام محطة الإذاعة والتليفزيون الحكومية “TRT” ومحطة “CNN” التركية اللتان سيطر عليهما المسلحون، وتمكنوا من إعادة السيطرة الحكومية عليها.
باختصار شديد لقد قام المواطنون الشجعان في تركيا بحماية الديموقراطية وحماية أردوغان الذي تم انتخابه بالاقتراع الشعبي، وقدمت تركيا مثالًا للعالم أجمع في دفاعها عن الديموقراطية.
وبينما كانت طائرات “إف-16” تحلق فوق أنقرة وتقصفها، انطلقت الصلوات من المساجد ولم تتوقف أبدًا، لقد كان موقفًا نبيلًا وقويًا للغاية، فبالرغم من الترويع الذي سببته المروحيات، كان سماع أصوات الصلوات تتردد من المساجد، أمرًا محفزًا ورافعًا للمعنويات، لا يمكن لأحد فهم هذا الشعور إلا من خلال التجربة.
استشهد 161 مواطنًا من أبناء شعبنا وأصُيب أكثر من 1000 شخص بجروح، دفاعًا عن الديموقراطية، وانطلقت الجنازات من جميع أنحاء البلاد، مطالبةً بمحاسبة الإرهابيين، وما زالت الشرطة تقوم بشن غارات على مواقع عسكرية وقواعد جوية، وما زال الجمهور في الساحات، فالخطر لم يتم القضاء عليه تمامًا بعد، ومن المؤكد أن الشعب لن يترك البلاد في أيدي الإرهابيين من جماعة غولن.
لقد حان الوقت لكي تقوم دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة باتخاذ بعض الإجراءات، حيث يعيش غولن حاليًا في الولايات المتحدة بينما يعيش بعض قادة التنظيم في مختلف دول الاتحاد الأوروبي، وقاموا بتشكيل شبكات خاصة وغير شرعية في ألمانيا وبلجيكا، لكن المواطنين الشجعان في تركيا يعتقدون بأن تصريحات التضامن التي أطلقها الرئيس الأمريكي باراك أوباما والمستشارة الألمانية آنجيلا ميركل، لم تكن صادقة.
إذا أراد أوباما وميركل ورئيس الوزراء البلجيكي شارل ميشيل ورئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر والآخرون، أن يكونوا صادقين في إدانتهم لهذا الهجوم الإرهابي، فيجب عليهم قطع كافة أشكال الدعم عن جماعة غولن.
فحتى وقت قريب، قام البرلمان الأوروبي بإصدار بيانات لا تعد ولا تحصى دفاعًا عن جماعة غولن، فإذا كانوا يرغبون حقًا في الوقوف جنبًا إلى جنب مع 78 مليون مواطن تركي ممن خاطروا بحياتهم دفاعًا عن الديموقراطية، فيجب عليهم اتخاذ التدابير اللازمة ضد جماعة غولن فورًا، ونحن بانتظار حدوث ذلك.
المصدر: ديلي صباح