مقاصد الشريعة الإسلامية، من أهم علومنا الإسلامية، لما لها من دور كبير في تسديد الفقه والفكر والعمل، والتزامهم جميعًا بالشرع الإسلامي نصًا وروحًا، والمقاصد: جمع مقصد، والمراد بالمقصد هنا: المعنى والهدف، والغرض الذي قصده الشارع، فهو مقصد له، وهو مقصود له أيضًا، فالمقاصد أرواح الأعمال.
وقد تنامي الاهتمام بمقاصد الشريعة في هذا العصر، وهو الأمر الذي يستدعي – أيضًا -، تنامى الحاجة إلى ترشيد وتسديد الحركة المقاصدية، وبيان الفوائد المتوخاة والأهداف المبتغاة من وراء معرفة المقاصد، ونشر الثقافة المقاصدية، حتى تحقق مقاصدها وفوائدها ولا تحيد عنها.
وإذا كانت مقاصد الشريعة الإسلامية تعني الغايات التي وضعت الشريعة لأجل تحقيقها لمصلحة العباد، فإن مقاصد المقاصد تعني بيان مقاصد هذا العلم (علم مقاصد الشريعة الإسلامية)، وما يقدمه من ثمرات، وما يسده من ثغرات (ص7).
في هذا الكتاب، يجيب شيخ المقاصديين المعاصرين، الدكتور أحمد الريسوني، عن عدة أسئلة تشغل بال كثيرين من الغيورين على الدين الإسلامي، والمتخوفين من انحراف علم مقاصد الشريعة، عن مساره الذي يجب أن يلتزمه، بسبب ما يرونه من اقتحام كثيرين من غير المختصين، أو المختصين غير المؤهلين، من المغرضين التحريفيين، لغمار هذا العلم، وما يأتون به من الغرائب والعجائب، من الآراء والنظريات والفتاوى”المخرجة تخريجًا مقاصديًا”، حتى ظن الناس أن الفتاوى المقاصدية تعني التفلت من النصوص وتحليل المحرمات (ص9).
مقاصد الشريعة هي مقاصد الكتاب والسنة
يؤكد المؤلف في الفصل الأول من الكتاب، أن مقاصد الشريعة إنما هي، أولاً وأخيرًا، مقاصد القرآن الكريم ومقاصد السنة النبوية، فليس هناك مقاصد للشريعة، سوى مقاصد الكتاب والسنة، وكل ما هو خارج عن نصوص الكتاب والسنة وليس له نسب فيها، فليس من مقاصد الشريعة في شيء، فلا وجود لما يسمى توجه مقاصدي ولا توجه نصوصي، فهذا خلل فادح، فمقاصد الشريعة لا مصدر لها سوى نصوص الشريعة.
فالتوجه المقاصدي، الحق، لا بد أن يكون نصوصيًا أكثر من أي توجه آخر، ومن لا يعولون على النصوص الشرعية منفردة ومجتمعة، ولا يدمنون النظر والتنقيب في معانيها ومراميها متحدة متضافرة، ولا يستخرجون مقاصد الشريعة من خلالها، هؤلاء لا يمكن اعتبارهم من أهل المقاصد ولا من أصحاب التوجه المقاصدي في فقه الشريعة (ص11-16).
مقاصد القرآن الكريم
يشير المؤلف إلى أن مقاصد القرآن، على درجات ثلاث، هي:
١- المقاصد التفصيلية للآيات القرآنية: إذ إن بيان المعاني والحكم المقصودة من كل آية، وكل جملة وكل لفظة قرآنية، هو غرض المفسر من تفسيره.
٢- مقاصد السور: حيث ظهرت عناية العلماء في القديم والحديث بمقاصد السور، وبالوحدة الموضوعية لكل سورة.
٣- المقاصد العامة للقرآن: أي المقاصد الجامعة، التي أنزل القرآن لأجل بيانها للناس، لإقامتها ورعايتها، ونتعرف عليها من خلال مسلكين:
ا- ما جاء التنصيص عليه في القرآن نفسه: مثل مقصد توحيد الله وعبادته، ومقصد الهداية الدينية والتعبدية للعباد، ومقصد التزكية وتعليم الحكمة، ومقصد الرحمة والسعادة، ومقصد إقامة الحق والعدل.
ب- استقراء مضامينه وأحكامه التفصيلية، واستنباط العناصر المشتركة الجامعة لما تركز عليه وما تدعو إليه، من خلال استنباط العلماء لمقاصد القرآن.
ثم تناول المؤلف، مقاصد القرآن عند أبي حامد الغزالي، والإمام العز بن عبد السلام، والإمام البقاعي، والسيد محمد رشيد رضا، والأمام ابن عاشور (ص20-37)، مؤكدًا على أن العناية بالمقاصد الكلية للقرآن الكريم، لم تبرز بوضوح إلا على يد بعض المفسرين والدارسين المعاصرين.
مقصد تقويم الفكر
تناول المؤلف، هذا المقصد الهام من مقاصد القرآن الكريم، الذي يجب لفت الانتباه إليه وتوجيه البحوث المقاصدية للنظر فيه وتعميقه، لأنه أساس في تقويم منهج التعقل والتفكير، فقد وجه القرآن الكريم، كامل عنايته لتقويم الفكر وتسديد النظر، وهو ما يتضح من القضايا القرآنية التالية المبثوثة في آيات وسور القرآن.
فالقرآن حجة وبرهان، لأن حرفته إقامة البرهان على تحقيق الحق وإبطال الباطل وعبر الحكمة في بعدها المنهجي، فالحكمة تعبير جامع عن المنهج القويم – ولا حكم إلا بدليل -، وهو أول ما تستلزمه الحكمة العلمية والعملية – والتأكيد على استعمال الأفئدة والحواس لأجل الفهم والعلم والتحقق من الأمور- ومنهج ضرب الأمثال والدعوة إلى تدبرها وتعقلها وفهم مغازيها ومراميها التعليمية والمنهجية (ص38-46).
وليس هذا فحسب، بل إن القرآن الكريم قد نبه إلى مواطن الخلل في منهج التفكير، حيث بين القرآن، الآفات والمزالق التي تعترض العقل البشري وقد تنحرف به وتفسده ومنها التبعية والتقليد، واتباع الخرص والظن، والتسوية بين المختلفات والتفريق بين المتماثلات (ص46-50).
الأهمية والفائدة الإجمالية لمعرفة مقاصد القرآن الكريم
يبين المؤلف أن هناك فوائد كبيرة لمعرفة مقاصد القرآن الكريم تتمثل في أنها:
١- هي المدخل السليم إلى فهم الرسالة القرآنية الإسلامية على وجهها الصحيح.
٢- تمكن قارئ القرآن من الفهم السليم للمعاني التفصيلية والمقاصد الخاصة لمثاله وقصصه ووعده ووعيده.
٣- هي الميزان والمعيار الذي يجب أن نزن به أعمالنا الفردية والجماعية.
٤- تسديد فهمنا لمقاصد السنة النبوية جملة وتفصيلاً.
٥- هي المعيار والميزان الذي لا بد منه للمفسرين في مناهجهم وتفسيراتهم، فتكون في نطاق مقاصد القرآن (ص50-52).
ولأن عدم الالتفات لمقاصد المقاصد، يوقع في أغلاط فاحشة في التفسير ذكرها المؤلف (ص52-59).
مقاصد السنة النبوية
يشير المؤلف إلى طبيعة السنة النبوية، وكونها بيانًا وتفصيلاً لما نزل به الكتاب العزيز، وتأكيدًا لمبادئه، وتطبيقًا لمقاصده، مؤكدًا على أن مقاصد السنة، في عمومها، هي نفسها مقاصد القرآن، لذلك توجه المؤلف لمقاصد السنة الجزئية التطبيقية لما لمعرفتها من فوائد وآثار، وتلك هي مقاصد المقاصد في السنة.
ويمكن إجمال تلك المقاصد في أمرين متكاملين متلازمين هما:
الأول: التمكن من وضع السنن والأحاديث النبوية في مواضعها وما أريد بها، وفق مقاصد الشرع في كل موضع منها.
الثاني: تلافي الوقوع في تفسيرات وتطبيقات مجافية لمقاصد الشارع أو مضيقة لها، مع ما ينجم عن ذلك من تحريف وتشويه للدين (ص61-62).
مبينًا أن أنواع وأسباب السنة النبوية أمران، هما:
١- معرفة الصفة التي صدر عنها وبمقتضاها الحديث النبوي، هل بصفته صلى الله عليه وسلم رسولاً نبيًا يبلغ الوحي وينفذه، أو بشرًا لا ينفك عن الطبيعة البشرية وما يعرض لها عند عموم البشر، أو ابن بيئته، وواحد من قومه وعشيرته أو إمام وقائد، أو قائد ميداني في الحرب، أو وهو يتولى القضاء والفصل في المنازعات، أو يستشار في أمور شخصية في حالات معينة، أو يستشفع به الناس فيتكلم بهذه الصفة، أو يبدي رأيًا في أمور دنيوية صرفة يقوم على الخبرة والتجربة والتقدير الشخصي، ويتناول أمثلة على هذا وأقوال العلماء في اختلاف حكم السنن بحسب مقاماتها.
ليخلص من هذا، إلى التأكيد على أنه مادامت السنن النبوية على هذا النحو من التنوع والتفاوت في مقامات صدورها، ومراتب لزومها وعمومها، فمعرفة أحكامها ومقاصدها ومواضع تنزيلها، تحتاج حتمًا إلى معرفة الصفة التي صدر عنها كل حديث وكل فعل نبوي (ص62-76).
٢- معرفة سبب ورود الحديث وسياق مخرجه: ويقصد به الواقعة أو المسألة أو المشكلة أو الحالة التي استدعت من النبي صلى الله عليه وسلم قولا أو فعلا أو تقريرا يتعلق بها.
فمن المعلوم، أن نصوص السنة النبوية شديدة الارتباط والاندماج مع سياقاتها الظرفية وأسباب ورودها، فالغفلة عنها تؤدي إلى كثير من الاضطراب في الدين والحرج على المسلمين، وهو ما أوقع في مشكلات كثيرة تعنت الخلق وتشجي الحلق وضرب أمثلة للغفلة عن ذلك وآثارها الوخيمة (ص76-81)