صدر منذ مدة قصيرة كتاب طال انتظار القراء والمتابعين له، هو عبارة عن ثاني اثنين حتى اللحظة، في إطار متتاليةٍ تسبر غور مسألة “الغربة” (بعد سبق رواية “غربة الياسمين”) وما أشد غربة الكثيرين منا اليوم سواء كنا في أفجاج متفرقة من المعمورة بعيدين عن أوطاننا أو كنا قريبين نعيش داخل رقعتها الجغرافية.
“أن تبقى” هو آخر ما جادت به قريحة الدكتورة خولة حمدي من آثار أدبية، وقد حصلت روايتاها السابقتان “في قلبي أنثى عبرية” و”غربة الياسمين” على أعلى مراتب المبيعات في عدد من أروقة المكتبات والمعارض العربية لأشهر متتابعة، هي عبارة عن رواية تسرد قصة شاب جزائري الأصل، من أصحاب الشهادات العليا وقد دفعت به الظروف القاهرة ليلقي بنفسه في عرض البحر متسللاً نحو أوروبا، مطاردًا أحلامه التي لم تتحقق على أرض أجداده ومطاردًا معها رزقَه من العمر والأحداث واللقاءات، في أسلوب سلس شيق وممتع، وذلك بالموازاة مع قصة ابنه الذي يتعرف عليه بطريقة غير مباشرة فلا تعود حياة هذا الأخير كما كانت من قبل.
تعرفتُ على فحوى الرواية على مراحل وكان لي شرف متابعة عملية الكتابة والتعديل اللاحق لها خطوة خطوة، فكانت تجربة رائقة في حد ذاتها لكل ما جمعته من اكتشاف لشخوص تنطق بالضرورة عن كاتبتها فأسر بمزيد التعرف عليها من خلال ما تصنع من مشاهد وأقوال وغير ذلك من الغوص في المكتوب وفيما وراءه.
الرواية تخوض وبعمق في عدد من القضايا الراهنة والمفتوحة ومنها بعض الآفات النفسية المتفشية بين الشباب اليوم والسابقة لآفات الفعل على الميدان، في واقع لم يعد يختص به أهل إفريقيا بشمالها وجنوبها فقط في رحلاتهم المنطلقة نحو أوروبا بل لحقتهم – أو سبقتهم ربما – شريحة كبيرة جدًا من “مواطني” العالم.
الهجرة اليوم صارت العنوان الأول لعيش عدد كبير من سكان الكرة الأرضية وبالذات العالم الثالث، ولم يعد الأمر يتصل بالأقل حظًا من التعليم والعمل، بل وحتى صفوة الصفوة من إطارات كفأة صارت تعاني الأمرين في مسقط الرأس لدرجة تجعلها تفعل “المستحيل” لتغادر.
قد لا يجد البعض نفسه في سفينة الهجرة غير الشرعية ولكنهم سيجدونها بالتأكيد فيما يلي ذلك من مراحل، استطاعت الرواية أن تنقل لنا الدواخل التي يتردد فيها صدى الغربة والتدهور النفسي واستفراغ الإنسان من مقومات الحياة المزهرة حيث ينكمش على نفسه معاديًا الظواهر الطبيعية القاسية ومعها ظواهر الأخذ والرد الإنساني حتى، فنجد أنفسنا إزاء درجة “متقدمة” من القهر والإحساس بـ “اللاوجود” تجعل مجرد الحديث عنها أو نقلها أو قراءتها موجعًا فما بالك بمن يشهد ويعيش، إنها مسحة القدر تلك والأحداث المتواترة التي تختزل في آن شدة الحياة وبأسها من جهة وانفراجة الباب التي تتركها دائمًا إذا ما أصدرت قرار الغلق.
في هذه الرواية، حدثتنا الدكتورة خولة عن إنسان يتوجه “لابنه” الإنسان وهنا تبدأ رحلة التوقف عند إحدى الجماليات الكونية فيما يجمع أب بابنه من أواصر تختلف تمظهراتها ومُخرجاتها، حين تختصر جملة “ليتك رأيته معي” تلك الرغبة في نقل “معرفة” نفيسة جدًا، وثقة لا تعادلها ثقة، ثقة إنسان في إنسان عندما تكون منزوعة التشرذم والقلق وتوقع الأسوأ، ثقةُ وكفى!
تطرقت الرواية بذكاء كذلك لصورة المرأة ما بين الرقة والأنوثة وبين الواجهة القوية التي يرهبها “الرجال”، كما عرجت على بعض دواليب السياسة والمعاملات، أحببت فيها تداخلات التاريخ في الواقع، بالقدر والكيفية المطلوبة ومع ذلك تلك اللمسة “التونسية” أو “المتوسطية” إن شئنا، في التعامل مع المعطيات والأحداث، ذاك الانفتاح الخاص أو تلك المرونة التي تحسن ضم واستجماع كل إرث وكل رابطة تراها صالحة وتتبناها وتوظفها فيما تصنع.
بعض ما تقرأ هنا يجعلك تعيد التفكير جديًا في بعض القرارات وتضيف بعض السطور للائحة الإمكانيات، فيها لمسة آدمية زادتها جمالاً بجرعات صدقها المؤثرة، شخصيًا، همت بعدد من الجزئيات البسيطة فيها وقد استطاعت أن تنقلني لحالات نفسية جامحة في أكثر من منعرج أسطر، في مثل هكذا كتابات، تصبح الرواية أكثر من مجرد مادة تفعل في الحاضر في مرور خاطف وإنما تصير لها وظيفة توثيقية هامة، هو “التاريخ الذي لا يشبه التاريخ”، كما يحلو لي أن أوصفه، ذاك الذي أستمتع بالبحث عنه دائمًا فيما أقرأ من حكايا.
“أن تبقى” وسعت قفزات رشيقة ما بين الماضي والمستقبل أيضًا، كما احتضنت بعض الروابط التي تجمعها بسابقتها “غربة الياسمين” بحيث تشعرك إذا ما قرأتها بألفة خفية تُضاف للجديد، توصيف المشاهد فيه تفاصيل تنم عن الكثير من الذوق، تلك التفاصيل المحببة، التي تجعل القارئ يعيشها لا يقرأها فحسب، وفيه طرافة استطاعت نقل جزء من الواقع الراهن الذي قليلاً ما يتم الاهتمام به إعلاميًا في العادة، هناك أيضًا تلك النبرة الوثائقية التي تتصدر في صدقها عددًا من المقاطع، وفي كل مرة تظن فيها أن ينبوع الحكايات والشخوص قد أخرج ما يكفي مما يدهش، تفاجئك القصة الموالية بما هو أدعى للدهشة.
عبر السطور، يجد القارئ نفسه إزاء كلمات دقيقة وموصفة في عربية قادرة على أن تنقل واقعنا اليوم لا أن تقف عند حدود الألفاظ المفرطة في التنميق والتعقيد فحسب، عربية تبشر ولا تُنفر، بسيطة حية بكل ما تحمله من خفة وثقل، الأمر الذي يدعو فعلاً للبِشر.
بعض اللمسات الفنية الجميلة أيضًا تأخذنا نحو ما يجعلنا نرى ما لا يُرى مثلاً ونؤمن بما اختلقه خيالنا أو قرر أن يستمر في رؤيته واختراعه بعد أن غاب، تخوض في الخيط الرقيق الفاصل بين العقل والجنون مما أعطى الرواية أبعادًا ميتافيزيقية شاسعة لمن يبحث عنها.
النص سلس متسلسل، خفيف على الروح وعميق جدًا في طرقه أبواب القضايا، كل مشهد بل كل فقرة تحس أن الكاتبة قد أفرغت فيها الكثير من الاهتمام من حيث المضمون ومن حيث الأسلوب واختيار المفردات وطريقة عرضها وإيصالها، وتطعيمه بالرسائل يجعلك قارئًا من وراء قارئ يغوص في تجربة مكثفة منقولة بعفوية نازعة لكل سلاح.
عن نفسي، أحببت نصف الرواية الثاني بالذات، ومع ذلك لكل قارئ أن يجد ضالته في الكتاب لأن النسق يختلف في كل جزء ويغتني في خضم الموازاة بين زمنين وكأنهما كتابان في كتاب، عن البقاء كقرار وكغريزة وكرحلة في حد ذاته، تحدثنا الدكتورة خولة حمدي بروح معاصرة راهنة جلية كالعادة تمتزج فيها بواعث السعادة بإيعازات الحزن لتنقل لنا بضعًا من حياةٍ حتى تأتي الخاتمة لتحرك القارئ ولتُعطيه فيرضى.