منذ أن دخل إلينا عالم الإنترنت بشكل واسع بعد عام 2003 بسبب التغييرات التي حصلت في العراق، لم تكن لدي أدنى فكرة عن الأهوار سوى معلومات قليلة وصور أخاذة جميلة وساحرة، لبيوت تتوسط المياه، وكأنها جزء أزلي منها، ونساء منهمكات بالعمل مع أزواجهن، وأطفال حفاة يركضون وراء جاموسة لكي يجبرنها على النزول إلى المياه.
تلك اللوحة الساحرة لتلك البقعة من أرض العراق، اقتصرت طوال السنين على النظر إليها من خلال صور قد لا توصل إليك المشهد الكلي من السحر، فلم أزرها إلا قبل عام من الآن.
الأهوار العراقية وهي مناطق من أرض العراق، تتوزع بشكل قريب في المدن الجنوبية ما بين مدن العمارة والناصرية والبصرة، وهي عبارة عن مسطحات مائية، يخنقها من كل جانب القصب، ولكنه يضفي عليها رونقا وجمالاً، أقام عليها سكان تلك المناطق بيوتهم وسط المياه، مستخدمين القصب والبردي في صناعتها، يعتمدون بشكل كبير في الحياة هناك على تربية الجاموس، واستغلال منتوجاته في صناعة الكثير من الأطعمة مثل القيمر والجبن وغيرها، وكذلك على صيد الأسماك، فضلاً عن أن الأهوار كانت وما زالت تستقبل – بشكل قليل – السياح من داخل العراق وخارجه، ويشكل تنقل السياح في المياه عن طريق المشحوف وهو قارب صغير، دخلاً مهمًا أيضا لسكان تلك المناطق.
لم أكن أتوقع أن قدماي ستطئ تلك الأرض، ولكن بحكم عملي المتنقل في إنتاج الأفلام الوثائقية، سنحت لي الفرصة لزيارة أكبر وأشهر أهوار العراق وهو هور الجبايش، أخذتنا السيارة من البصرة باتجاه مدينة الناصرية، وصلنا مقتربين إلى ذلك الهور، وفي الطريق كان المذياع يمتعنا بأصوات وألحان وقصائد من روح الأهوار، كنا نسمع حينها أغنية “مرينا بيكم حمد” الشهيرة، والتي يغنيها المطرب العراقي إياس خضر، وهي من كلمات عاشق الأهوار الشاعر العراقي مظفر النواب، حينها لم تكن ترى عيناي سوى خيالات تلك الصور، وأحدث نفسي أني ها سأرى السحر والجمال والحلم.
دخلنا من شارع شبه ضيق، وعلى جانبي الطريق كانت هناك بيوت من القصب وأخرى من الطين، استوقفنا أطفال منتشرون هناك، اشترينا منهم شيئًا أراه وآكله لأول مرة اسمه “العكَيد” وهو يستخرج من القصب، كان طعمه لا بأس به على الأقل بالنسبة لي!
في الصباح الباكر وعند أذان الفجر استيقظنا لتبدأ رحلتنا، الحياة هناك تبدأ قبل الشروق، وتنتهي قبل التاسعة مساءً، نساء بسيطات يجلسن على الأرض يبعن ما يؤكل في الفطور، أول ما رأتني واحدة من تلك النساء بادرت بالكلام “ها يُمه، تريد كَيمر – قيمر -، جبن”، والقيمر هو نوع من أنواع القشطة يصنع بطريقة فريدة في العراق من حليب الجاموس، هناك كل شيء طازج، لا يوجد للمعلب مكان، اللبن والجبن والقيمر والحليب، قمنا بشراء ما نريده من المنتجات الصباحية وكذلك من الخبز الساخن، وذهبنا باتجاه أبو حيدر الذي كان ينتظرنا عند القوارب الصغيرة هو وأبناؤه، ركبنا قواربنا، ومضينا.
أخذتنا تلكم القوارب – المشحوف – وسط نهر الفرات باتجاه المسطحات المائية والتي تسمى هور الجبايش، القصب يظهر في كل مكان، جو ساحر رغم أن رحلتنا كانت في شهر تموز الذي يتميز بالحرارة، سماء صافية، في الطريق كان يغني لنا أبو حيدر قائد الرحلة الكثير من الأغاني والمواويل العراقية الحزينة، كان صوته شجيًا، يغني ووجوهنا تبحلق في المكان وكأننا في جنة، العمل دؤوب وسط المياه، رجال ونساء وأطفال، ميزة النساء أن جميعهن يعملن، بل قد يتبادر في الذهن لأول وهلة أن عددهن أكثر من الرجال في العمل، تربية الجواميس وصيد الأسماك وجمع القصب هي الأعمال الأكثر أهمية في هذا المكان.
وأثناء رحلتنا تلك رأيت كل المعالم التي كنت أراها في الصور سابقًا، لكن كان إحساسي أن هناك نقص ما، البيوت التي تصنع من القصب لم تعد موجودة، سألت أبو حيدر عنها فأجابني أن القليل منها قد بقي بعد أن هجر الناس هذا المكان في نهاية الثمانينات بعد أن قام رئيس النظام السابق صدام حسين بتجفيف مياه الأهوار بحجج ومزاعم عدة منها أن من تمردوا عليه كانوا يختبئون ويحترسون بمياهها وقصبها، فهجر سكانها تلك المناطق، واندثرت بيوت القصب.
لكن أبا حيدر أخذنا إلى بعض البيوت المتبقية، كان منظرًا رائعًا بالرغم من تبعثر تلك البيوت القليلة على أجزاء واسعة، يا له من حلم أن تنام وتصحو وتأكل وأنت محاط بالمياه من جميع الجوانب، ما أجمل الغروب من هذا المكان، وما أجمل القمر وإطلالته في الليل، إنها إطلالة لا يحلم بها الملوك!
وصلنا إلى منتصف النهار، كان أبو حيدر قد صاد لنا ثلاث سمكات، نزلنا في إحدى الجزر التي تتوسط تلك المياه، جاء بـ “المطال” ليشوي لنا عن طريقه السمكات، والمطال هو الفضلات التي تستخرج من الحيوانات وخصوصًا من الجاموس، ويقوم سكان تلك المناطق بتجفيفه واستخدامه لإشعال النار.
بقيت في ذلك المكان خمسة أيام، صورنا كل التفاصيل، كنت أتمنى ألا تنقضي الرحلة، فهواؤها يبعث الروح من جديد، الجميل أن جميع من تعاملت معهم من الناس هناك، كانت قلوبهم صافية، لا زالوا على الفطرة، بسطاء، ولم يلوثهم الكثير مما لوثتنا به الحياة المدنية.
الأهوار هي تاريخ العراق، سكانها هم امتداد للسومريين، وبقايا أوائل البشر في هذه الدنيا، ها قد جاء اليوم لعودة رونقها، ولتبعث بيوت القصب من جديد، بعد ضمها إلى لائحة التراث العالمي، عله يخفف عنها الظلم الذي وقع عليها في عهد النظام السابق، والإهمال الذي تعمده حكام اليوم بالرغم أنها حمتهم بالأمس.