استيقظت تركيا اليوم الأربعاء 20 يوليو/ تموز على خبر هبوط الليرة التركية إلى أدنى مستوى لها في عشرة أشهر أمام الدولار الأمريكي بعد سلسة أخبار التطهير في أجهزة الدولة من الانقلابيين ومناصري الكيان الموازي، حيث انخفضت الليرة بنسبة 8% مسجلة أعلى سعر لها عند 3.0630 مقابل الدولار في التعاملات الآسيوية في سنغافورة.
وقد تحسنت الليرة التركية عن المستويات التي حققتها سابقًا إبان الانقلاب الفاشل في 15 يوليو/ تموز، إذ ارتفع سعر الصرف مقابل الدولار إلى 3.04 ولكن عاود السعر للانخفاض في يوم الإثنين 18 يوليو/ تموز ليصل إلى قرب مستوياته السابقة ما قبل الانقلاب عند 2.92 ليرة مقابل الدولار.
من ناحية سياسية
تتنوع أسباب الارتفاع الحاصل في سعر صرف الليرة أمام الدولار، فمن ناحية سياسية بسبب الاعتقالات التي قامت بها الحكومة التركية وتلميحات بإعادة حكم الإعدام وارتباك في العلاقة بين أنقرة وواشنطن في حال لم تسلم الأخيرة فتح الله غولن لأنقرة بعد مطالبات القيادة التركية بتسليمه لها وإرسال أربعة ملفات تحمل بين طياتها معلومات تدينه بضلوعه في العديد من القضايا كتأسيس كيان موازٍ للدولة والمسؤولية عن الانقلاب الفاشل مساء يوم الجمعة 15 يوليو/ تموز.
يتوقع وزير الاقتصاد التركي نهاد زيبكجي أن يواصل البنك المركزي التركي خفض أسعار الفائدة، وأشار أن محاولة الانقلاب الفاشلة أثرت على الاقتصاد، لكن هذا التأثير سيتلاشى.
وقد بلغ عدد المعتقلين في إطار عملية التطهير التي تقوم بها الحكومة التركية 7500 معتقل بينهم 6000 من العسكريين وأعلنت وزارة التربية أمس الثلاثاء إيقاف 15 ألف و200 من موظفيها وفروعها المختلفة في الولايات التركية عن عملهم بشكل مؤقت بغرض فتح تحقيق معهم على خلفية الاشتباه بصلتهم بمنظمة فتح الله غولن.
كما طلبت مؤسسة التعليم العالي التركية من 1577 عميد كلية تقديم استقالتهم، ودعت الحكومة 1500 من الموظفين الكبار في وزارة التعاليم العالي التركي للاستقالة على خلفية اتهامهم بالانتماء للكيان الموازي، وبدورها قامت وزارة الشؤون الدينية بإعفاء 492 من موظفيها بعد الانقلاب الفاشل وأغلقت الحكومة محطات تلفزيونية وراديو تركية متهمة بالدعاية للكيان الموازي، وأكدت أيضًا وزارة الأسرة والسياسات الاجتماعية التركية أمس الثلاثاء إبعاد 393 من موظفيها عن عملهم للاشتباه في صلتهم بمنظمة فح الله غولن وفتح تحقيق معهم بخصوص ذلك.
وفي هذه الحالة فإن الحكومة ستضطر لمناقشة سياسات عاجلة لملء الشواغر في الوظائف التي أعفي منها أصحابها وهذا قد يتطلب موارد بشرية ذات كفاءة ووقت في الظرف الراهن.
كما طالت إجراءات التطهير منظمات وموظفين في خارج تركيا، حيث زودت السفارة التركية وزارة الخارجية المغربية في المغرب بمعلومات حول مؤسسات جماعة فتح الله غولن في المملكة، متأملة أن تتخذ الحكومة المغربية الإجرءات المناسبة بخصوص هذه المؤسسات، علمًا أن المغرب عبروا عن وقوفهم إلى جانب تركيا والديمقراطية ضد محاولة الانقلاب الفاشلة.
ويُنتظر اليوم الأربعاء نتائج اجتماع مجلس الأمن القومي التركي لبحث تداعيات الانقلاب الفاشل برئاسة الرئيس أردوغان الذي سبق وأعلن أن هناك قرارات مهمة ستصدر عن هذا الاجتماع، وتأتي التكهنات حول القرارات أنها ستشمل إعادة هيكلة الجيش وتشديد الأمن وتقييد بعض الحريات بما يتيح استكمال تطهير مؤسسات الدولة من جماعة فتح الله غولن، علمًا أن قرارات المجلس لا تنشر لمدة عشر سنوات وتحاط بالسرية التامة ويتم معاقبة من يقوم بنشرها بحسب ما أفاد به موقع الجزيرة نت عن مراسها في أنقرة والذي أفاد أنه يصدر عن الاجتماع بيان مقتضب يحدد نوع المواضيع التي تمت مناقشتها.
وفي سياق مختلف فقد صرح موقع ويكيليكس بأنه يخطط لإطلاق وثائق تخص بنية السلطة السياسية في تركيا بعد محاولة الانقلاب الفاشلة على الحكومة التركية، حيث سيطلق في أول دفعة 300 ألف إيميل و500 ألف وثيقة في تركيا.
من ناحية اقتصادية
يشير الخبراء الاقتصاديون أن المستثمر الأجنبي في تركيا مرتاحًا من خروج الشعب التركي لتأييد الديمقراطية ضد الانقلاب العسكري الفاشل وتأييده لشرعية الحكومة ودفاعه عنها، فهذا يعني شيئًا إيجابيًا بالنسبة للمستثمرين، إلا أن مخاوفهم اليوم تنصب حول مآلات الديمقراطية في تركيا في المستقبل المنظور وتركيز السلطات في يد الحزب الحاكم وانقسامات قد تحصل بسبب الاختلاف على النظام السياسي وحكم الإعدام وتداعيات عمليات التطهيرالجارية على كافة المستويات في أجهزة الدولة.
وأشار أحد الخبراء أن النمو الاقتصادي وعجلة الإنتاج في تركيا تعتمد إلى حد بعيد على تدفقات رأس المال الأجنبي، وبالتالي فإن الاستقرار السياسي والحكم الديمقراطي سيكون أمرًا ذا أهمية بالغة في البلاد بالنسبة للمستثمرين الأجانب في تركيا، وشدد على أن احتياجات تركيا التمويلية التي تقدرها مجموعة “سيتي غروب” الأمريكية بحوالى 190 مليار دولار في العام، تجعل من ثقة المستثمرين الأجانب في الاقتصاد التركي ذا أهمية عظمى للنمو الاقتصادي.
تنوي وكالة موديز للتصنيف الائتماني مراجعة تصنيف تركيا الائتماني، حيث ذكرت الوكالة في بيان صحفي صدر يوم أمس الثلاثاء 19 يوليو/ تموز “أن سبب مراجعة تصنيف تركيا، يعود إلى الحاجة لتقييم الآثار المتوسطة المدى لمحاولة الانقلاب العسكري على النمو الاقتصادي للبلاد، والعوامل الخارجية، مع الأخذ بعين الاعتبار المشاكل الفعلية التي تتعرض لها تلك المنطقة”.
وبررت الوكالة أنه على الرغم من فشل الانقلاب، إلا أن حقيقة حدوثه تشير إلى وجود مجموعة واسعة من المشاكل السياسية والخلافات التي تحف الدولة، وبحسب الوكالة، فإن تركيا ستشهد تباطؤًا في النمو الاقتصادي خلال العامين القادمين، وذلك نظرًا لعدم إمكانية التنبؤ بالسيناريوهات السياسية المحتملة في المرحلة القادمة، وانخفاض فرص الحصول على السيولة الخارجية، نظرًا لاحتياجات تركيا العالية للاقتراض من الخارج، في ظروف زيادة تقلبات السوق المحلية والدولية، إضافة إلى تراجع تدفق رؤوس الأموال إليها.
مودير تقول إن سبب مراجعة تصنيف تركيا، يعود إلى الحاجة لتقييم الآثار المتوسطة المدى لمحاولة الانقلاب العسكري على النمو الاقتصادي للبلاد، والعوامل الخارجية، مع الأخذ بعين الاعتبار المشاكل الفعلية التي تتعرض لها تلك المنطقة.
ومن أجل احتواء تبعات الأزمة قام المركزي التركي بتخفيض الحد الأعلى لأسعار الفائدة الذي يستخدمه لوضع السياسة المالية إلى 8.75%، وخفض سعر الفائدة على الإقراض لليلة واحدة عند 25 نقطة أساس كما كان متوقعًا، بينما أبقى سعر الفائدة الرئيسي لمدة أسبوع دون تغيير عند 7.5%.
وذكر وزير الاقتصاد التركي نهاد زيبكجي في مقابلة مع رويترز، أنه يتوقع أن يواصل البنك المركزي التركي خفض أسعار الفائدة، وأشار الوزير أن محاولة الانقلاب الفاشلة أثرت على الاقتصاد، لكن هذا التأثير سيتلاشى بحسب تعبيره.
وتأتي سياسة المركزي في تخفيض أسعار الفائدة تماشيًا مع دعوة الرئيس أردوغان لخفض تكلفة الاقتراض، إذ يعتمد الرئيس على تحقيق معدلات نمو بدعم من الاستهلاك فضلًا عن تعزيز الاستثمارات وزيادة تنافسية الشركات التركية في الأسواق العالمية، وأكد المركزي أنه سيُبقي على سياسة التشديد النقدي في ضوء توقعات التضخم.
وفق ما سبق ذكره فإن الاقتصاد التركي يدخل في حالة الشك وعدم اليقين وهذا سيؤثر على الاقتصاد، لذا فإن الفترة الحالية قد تشهد مضاربات في الأسواق المالية وفي سعر صرف الليرة، وهذه المضاربات قد لا تقتصر فقط على تخارج رؤوس الأموال الأجنبية وحركات تصحيح ونزوحها للخارج بسبب عدم الاستقرار، إنما قد تكون موجهة أيضًا بهدف جني الربح من الحركة المتذبذبة في سعر العملة وأسواق السندات والأسهم، وهذا له بُعد خطير، إذ قد يستغل بعض المضاربين حول العالم هاوين العمل في هكذا ظروف وصناديق التحوط العالمية، هذه الثغرة في الوضع الغامض الذي يمر فيه الاقتصاد التركي بغرض تحقيق أرباح عالية والتأثير على قيمة العملة.
موديز ترى أن تركيا ستشهد تباطؤًا في النمو الاقتصادي خلال العامين القادمين، نظرًا لعدم إمكانية التنبؤ بالسيناريوهات السياسية المحتملة في المرحلة القادمة، وانخفاض فرص الحصول على السيولة الخارجية.
وهنا يبرز دور محافظ المركزي وقدرته على التنبؤ بهذه الأفعال ومدى احتوائها بحيث لا تؤثر على الوضع المالي العام في البلاد وتقود إلى أزمات مالية لا تُحمد عُقباها، وعلى المركزي أن يقوم بعدة خطوات احترازية في الوقت الحالي لمنع حدوث أي نزيف مالي من الاقتصاد مثل تحديد كمية سحب الدولار من المصارف ومنع إخراج العملة الصعبة خارج البلد بكميات كبيرة وفي وقت قصير، والتنبه لسوق الأوراق المالية واعتماد حالة التنبؤ بالأزمات والإنذار المبكر لمنع حدوث انهيارات محتملة في الأسواق المالية والقيام بإغلاق السوق فور حدوث أي شيء من هذا القبيل.
تركيا ليست البلد الأول الذي تمر بهكذا ظرف وليست الأخيرة، ولكن أمامها ورئيسها فرصة حقيقية لتبرز أنها ذات اقتصاد واثق ومستقر، وقادرة على فصل الاقتصاد عن الأزمات المختلفة التي تحدث في البلاد باتخاذ إجراءات احترازية وعدم التساهل بالظروف، وهي بنفس الوقت فرصة لأجهزة الدولة الاقتصادية للتمرن على الأزمات واتخاذ السياسات الجديرة بالاحتراز.
إن السياسة المتبعة في أوقات الأزمات سواء عند بعض الأفراد والمؤسسات والدول تهدف للخروج بأقل الخسائر ولكن عند البعض الآخر تهدف للخروج أقوى من السابق من خلال التغلب على الأزمة وكسب ثقة المستثمرين والمؤسسات.