منذ سقوط الطائرة الروسية أواخر أكتوبر العام الماضي في وسط شبه جزيرة سيناء والعلاقات الروسية – المصرية تحيا حالة من التوتر المشوب بالحذر والقلق، إثر القرارات التي اتخذتها موسكو بشأن تعليق رحلاتها للقاهرة، وذلك على عكس طبيعة العلاقات بين البلدين حينها، والتي بلغت من القوة والتطور ما لم تبلغه منذ عقود طويلة.
تعليق روسيا لرحلاتها الجوية تفهمته القاهرة بشكل طبيعي، لاسيما بعد ضلوع بعض التنظيمات الإرهابية في الحادثة حسبما أسفرت نتائج التحقيقات، آملة أن تعود موسكو عن قرارها في أقرب وقت تماشيًا مع العلاقات المتطورة بين البلدين والتي تدفع كل منهما إلى الحيلولة دون تعميق الأزمة حفاظًا على روابط الصداقة بينهما.
لكن وبعد مرور ما يقرب من تسعة أشهر على الحادث وبالرغم من المحاولات والجهود الدبلوماسية التي بذلتها مصر لإثناء الشريك الروسي عن قراره الذي أثر بصورة كبيرة على حركة السياحة في مصر، فضلاً عن آثاره السياسية الأخرى، إلا أن هذه المحاولات باءت جميعها بالفشل حتى وإن تلقت القاهرة وعودًا عديدة من الإدارة الروسية.
ومؤخرًا فوجئت وزارة السياحة المصرية وشركة مصر للطيران بتصريحات روسية أثارت استياء الجميع، حيث فرضت موسكو – على لسان بعض دبلوماسييها – عددًا من الشروط (المجحفة) لإعادة رحلاتها لمصر مرة أخرى، وهو ما لم تفعله مثلاً مع تركيا التي تراجعت عن قرارها فور اعتذار أردوغان دون شروط مسبقة، مما يضع العديد من علامات الاستفهام حول الموقف الروسي من مصر، وهل هناك محاولة لابتزاز القاهرة أم أن الربيع المصري – الروسي أوشك على الانتهاء؟ وما موقف الإدارة المصرية من هذه الشروط التي وصفها البعض بـ “المذلة”؟
العلاقات المصرية – الروسية
تعد العلاقات المصرية – الروسية من أقدم العلاقات وأقواها على الساحة الإقليمية – سياسيًا واقتصاديًا-، حيث شهدت العديد من المحطات التاريخية الهامة التي جعلت من كل دولة شريكًا استراتيجيًا للأخرى، بالرغم من التغيرات التي طرأت عليها في بعض المراحل.
وتعود بداية العلاقات الدبلوماسية بين الاتحاد السوفيتي ومصر إلى 26 أغسطس 1943، حيث افتتاح أول قنصلية سوفيتية في القاهرة، ولم تكن البدايات سياسية وفقط، ففي أغسطس 1948 وقعت أول اتفاقية اقتصادية بين البلدين، بمقتضاها يتم مقايضة القطن المصري بحبوب وأخشاب من الاتحاد السوفيتي.
وبلغت العلاقات الثنائية ذروتها في فترة الخمسينات والستينات من القرن العشرين حين ساعد آلاف الخبراء السوفيت مصر في إنشاء المؤسسات الإنتاجية، فضلاً عن تمويل ما يقرب من 97 مشروعًا، منها بناء السد العالي في أسوان ومصنع الحديد والصلب في حلوان ومجمع الألمونيوم بنجع حمادي ومد الخطوط الكهربائية أسوان – الإسكندرية، فضلاً عن التعاون في المجال العسكري حيث زودت موسكو القاهرة بخبراء روس لتعليم الجنود المصريين، إضافة لتزويد الجيش المصري بالأسلحة المتطورة.
وكانت مصر في طليعة الدول التي أقامت العلاقات الدبلوماسية مع روسيا الاتحادية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991، واستمرت العلاقات بين البلدين على نفس الوتيرة إبان فترة حسني مبارك.
ومع بداية ثورة يناير المجيدة أبدت موسكو تحفظها على السياسة الخارجية المصرية في ذلك الوقت لاسيما بعد وصول تيار الإسلام السياسي للحكم، وهو ما أقلق الإدارة الروسية حينها بسبب دعمه لفصائل المقاومة في المستعمرات الروسية في الشيشان وغيرها، وهذا ما يفسر الترحيب الشديد بسقوط حكم الإخوان المسلمين، والدعم المطلق لـ 30 يونيو، وتكريس حكم عبدالفتاح السيسي بحزمة من المساعدات العسكرية والاقتصادية.
دخلت العلاقات بين القاهرة وموسكو مرحلة من الوفاق غير المسبوق مع تولي السيسي مقاليد الأمور في البلاد، حيث اعتبرت مصر روسيا الشريك الأكثر وفاءً ومساندةً ودعمًا للنظام الحاكم في مرحلته القادمة، خاصة بعد تردد بعض القوى الدولية في الاعتراف بشرعية السيسي معتبرة أن ما حدث في 30 يونيه انقلابًا على الشرعية، فما كان أمام السلطة حينها إلا البحث عن حليف قوي يدعم توجهاتها الجديدة، فكانت موسكو.
ثم جاءت الزيارات المتبادلة بين بوتين والسيسي لتسير في هذا الاتجاه، وهو ما أوهم المحللين في مصر حينها بأن روسيا هي البديل الجديد لأمريكا وأوروبا، وليس مشهد بوتين خلال تلقيه العشاء من فوق برج القاهرة، فضلاً عن ارتداء السيسي لـ “جاكيت ” بوتين في موسكو ببعيد.
ثم جاءت حادثة الطائرة الروسية التي سقطت في سيناء صبيحة السبت 31 أكتوبر 2015، والتي كانت متجهة من مطار شرم الشيخ إلى مطار سانت بطرس بورج وعلى متنها 224 راكبًا لقوا جميعًا حتفهم، لتضرب بكل أوهام المحللين عرض الحائط، لتعلن موسكو فورًا تعليق رحلاتها للقاهرة، وإجلاء رعاياها وتحذير مواطنيها من السفر لمصر، مما مثل صدمة هائلة للمقربين من نظام السيسي، وبات السؤال الأكثر حرجًا يفرض نفسه على الجميع: أين الحليف الجديد؟ ولماذا تخلى عنا مع أول موقف؟ هل من المنطقي الاعتماد على شريك قد يلقي بك في أول محطة حينما تتعرض مصالحه للضرر؟
بوتين يهدي السيسي “جاكيت” أثناء زيارته لموسكو
حادثة الطائرة الروسية وشروط موسكو المجحفة
ظنّ البعض حينها أن الموقف الروسي ليس أكثر من رد فعل مؤقت، وأن جبال الجليد التي بنيت بين البلدين في غمضة عين وانتباهتها، ستذوب قريبًا بقوة دفء العلاقات بين الجانبين، لكن ومع مرور تسعة أشهر تقريبًا لم تحرك موسكو ساكنًا، ولم تستجب للتحركات الدبلوماسية المصرية بشأن العودة عن هذا القرار الذي ألقى بظلاله القاتمة على الاقتصاد المصري داخليًا، وصورة مصر خارجيًا، ثم جاءت الشروط الروسية الجديدة لاستعادة رحلاتها من جديد للقاهرة لتضع المزيد من الوقود على نيران العلاقات بين البلدين لتزيد اشتعالاً، لتدخل العلاقات الروسية – المصرية نفقًا مظلمًا جديدًا.
صحيفة “إزفيستيا” الروسية نقلاً عن مصادر دبلوماسية ألقت الضوء على بعض الشروط التي فرضتها موسكو لعودة السياح الروس لمصر مرة أخرى، والتي جاءت في معظمها “مجحفة ومهينة للسيادة المصرية”، ومنها، بناء صالات خاصة للسياح الروس والطائرات الروسية في مطارات البلاد، أو تخصيص عدد من المخارج الخاصة فقط بالسياح الروس في المطارات المصرية، مضيفة أن الجانبين المصري والروسي يتفاوضان على هذه الصالات المنفصلة لتناسب خصيصًا السياح والطائرات الروسية، موضحة أنه سيتم استئجار واحدة من الصالات في المطار مخصصة للجانب الروسي لتوفير الأمن والتفتيش الجمركي والجوازات، وتفتيش بضائع الركاب وستنفذ هذه الأمور من قبل المتخصصين الروس.
الصحيفة الروسية لم تشر إلى أي رد فعل من الجانب المصري حيال هذه الشروط عند سماعها، مكتفية بأن الوفد سمعها بحذر شديد دون التعليق عليها، مما يعني تفكيره في احتمالية تنفيذها، حسبما أشارت الصحيفة على لسان ليونيد إيسايف المحاضر في المدرسة العليا للاقتصاد، والذي أكد أن مسألة إرسال الخبراء الروس في المطارات المصرية لضمان سلامة الركاب تمت مناقشتها بالفعل من قبل سلطات البلدين.
الغريب في القضية أن بعض الخبراء المصريين تعاملوا مع هذه الشروط على أنها أمر طبيعي، لكن المشكلة تكمن في التكاليف والوقت وليس في المبدأ، وهو ما أشار إليه الرئيس الأسبق لاتحاد الغرف السياحية إلهامي الزيات، والذي أرجع صعوبة تأجير صالة سفر ووصول للجانب الروسي لاستقبال وتسفير الروس من وإلى المطارات المصرية، إلى أنه لا توجد صالات زائدة لذلك، بغض النظر عن التكاليف المادية، مع العلم بأن بناء صالة جديدة قد يأخذ بعض الوقت.
الرئيس الأسبق لاتحاد الغرف السياحية أكد على وجود إجراءات أمنية جديدة في المطارات المصرية ستكون بالاتفاق مع الجانب الروسي وبعض الدول الأخرى، متمنيًا أن تعود العلاقات الروسية – المصرية كما كانت دون التعليق على مساس هذه الشروط بالقرار المصري.
حطام الطائرة الروسية بعد سقوطها في سيناء أكتوبر الماضي
لماذا مصر؟
لم تشفع الجهود الدبلوماسية التي بذلتها القاهرة طوال الأشهر الماضية لإثناء موسكو عن قرارها المجحف بحق الجانب المصري، ولم تلق الإدارة الروسية بالاً للنداءات السياسية والشعبية والإعلامية الصادرة عن القاهرة لعودة السياحة الروسية من جديد، وهو ما اعتبره البعض نوعًا من “التعنت” المبالغ فيه من قبل موسكو يعكس هشاشة العلاقات بين الجانبين على عكس ما كان يروج الإعلام المصري، بينما رآه آخرون قرارًا منطقيًا في ضوء حفاظ موسكو على حياة مواطنيها طالما أن هذا الإجراء هو المتبع مع كل دول العالم دون استثناء، وما هي إلا مسألة وقت وتعود الأمور إلى نصابها الطبيعي، هكذا كان يرى المتفائلون، إلى أن فوجئ الجميع بقرار روسي يشير إلى استئناف رحلات الطيران الروسية لتركيا بعد أقل من شهرين من إسقاط الأخيرة لطائرة حربية روسية عن عمد على الحدود السورية، ليضع العديد من علامات الاستفهام حول معايير تقييم موسكو للدول التي تتعامل معها.
إشكالية كبيرة تواجهها الإدارة المصرية أمام المقارنة بين رد الفعل الروسي على إسقاط طائرته ما بين القاهرة وأنقره، فبالرغم من استهداف التنظيمات الإرهابية للطائرة الروسية في سيناء، وتبرئة مصر تمامًا من التورط في هذه الحادثة، فضلاً عن تولي موسكو ملف التحقيقات في هذه الكارثة، إلا أن كل هذا لم يحرك ساكنًا في القرار الروسي، وفي المقابل فحين نعلم أن تركيا هي من أسقطت الطائرة “سوخوي” الروسية وقتلت طائرها عن عمد، ومع ذلك حين يتم الاعتذار هاتفيًا من الرئيس التركي تتراجع موسكو عن قرارها فورًا وتستأنف رحلاتها من جديد لتركيا، فلا بد من وقفة.
الرئيس التركي ونظيره الروسي
من راهنوا على قوة ومتانة العلاقات مع روسيا ها هم اليوم يبحثون عن تبريرات واهية بشأن الشروط المجحفة التي وضعتها موسكو لعودة سائحيها لمصر مرة أخرى، آملين عودة العلاقات بين البلدين في أقرب وقت، دون التحدث عن السقوط المدوي الذي وقعت فيه الدبلوماسية المصرية في تقييمها للعلاقات مع موسكو، وما تلاها من عزف منفرد للإعلام المصري على هذا الوتر أيضًا، مما أوهم الجميع أن روسيا هي مصر التي تتحدث الروسية.
الموقف الروسي من تركيا مقارنة بموقفه من مصر يؤكد أن معايير تقييم العلاقات الدولية لدى موسكو تختلف عما كان يتوهمه المصريون، فقوة العلاقات ومتانتها ليس بالاستقبال الحافل، ولا الزيارات المتكررة، فضلاً عن تسليط الضوء الإعلامي ليل نهار على التاريخ المشترك بين الجانبين، وتمجيد حضارة الدب الروسي، وقوته العسكرية، ومناهضته لأمريكا، وما إلى غير ذلك من الممارسات التي لا تؤثر لا من قريب أو بعيد في القرار الروسي.
لا بد من إعادة القاهرة النظر في علاقاتها مع الدول الحليفة والمجاورة، فليس كل استقبال أسطوري يعكس قوة في العلاقات، وليس كل موقف يدعم توجهات الدولة الآنية يمثل تأييدًا للنظام على طول الخط، فأنقره ليست أفضل من القاهرة، والتاريخ العثماني أو التركي ليس بأعرق من الحضارة المصرية القديمة، كما أن الشعب المصري ليس أقل من غيره من شعوب العالم المتقدم.
على مصر أن تراجع مواقفها وألا تستسلم لهذه الشروط المهينة التي تمس سيادتها الوطنية، وإلا لماذا لم تشترط القاهرة على باريس كما اشترطت موسكو؟ ولماذا لم تشترط الأخيرة على أنقره كما اشترطت على القاهرة؟
وبالرغم من عدم صدور أي رد فعل رسمي حيال الشروط الروسية الجديدة من قبل السلطات المصرية، إلا أنه وخلال الأيام القادمة سيعاد تشكيل التحالفات الإقليمية في الشرق الأوسط بصورة كبيرة، لاسيما بعد التطورات المتلاحقة التي تشهدها دول المنطقة، فهل تبحث مصر لنفسها عن دور في هذه التحالفات الجديدة يعكس حضارتها وتاريخها الريادي العريق أم ستكتفي بدور التابع والشريك لحليف قد تراه قويًا؟ هذا ما ستكشف عنه الأيام المقبلة.