تأتي “ملكات سوريا” في محاكاة لـ “نساء طروادة”، المسرحية اليونانية المشهورة في عام 410 قبل الميلاد، خلال الحرب البيلوبونيسية، والتي كانت حربًا سجالًا بين اليونان وإسبارتا وحلفائهم، حيث كان “نساء طروادة” هو أول عمل درامي يمثل ضحايا الحرب من النساء، ومن ثم في عام 2016 ميلاديًا، تأتي “ملكات سوريا” لتمنح السوريات ممن اضطررن إلى مغادرة بلادهن صوتًا قويًا يعبر عما عشنه في الواقع على خشبة المسرح، فيما يُسمى بالعلاج بالدراما!
“ملكات سوريا” هو عمل درامي يتم تمثيله من قِبل 14 امرأةً سوريةً من اللاجئين، تقول مها، وهي إحدى الممثلات في العمل، لموقع ميدل إيست آي بأنه تتشابه قصة طروادة مع قصة سوريا، حيث يتشابه العملان المسرحيان كثيرًا، فكان هناك ضحايا من النساء والأطفال، كما كان عندنا ضحايا من النساء والأطفال، كان عندهم دمار وكان عندنا خراب، لذلك لم نتردد عندما تم عرض العمل المسرحي علينا، لقد عشنا القصة المكتوبة بأنفسنا، فلن يكون هناك داع لبذل الجهد أثناء التمثيل، ذلك ما حدث معنا، وسنعيد تمثيله على خشبة المسرح.
قدرت المفوضية السامية لشؤون اللاجئين أن عدد السوريين الذين غادروا سوريا بعد الحرب يقارب أربعة ملايين سوري حول العالم، كما حددت أن النسبة الأكبر منهم تعود إلى الأطفال والنساء، حيث يمكن أن تصل تلك النسبة إلى 75% من عدد اللاجئين الكلي، وهنا نجد الأخبار والأرقام حولنا في كل مكان تتحدث عن قضية اللاجئين بشكل مجرد، ويختصرون القضية في بعض الصور أو التحالفات العسكرية أو التحالفات السياسية، أو في رحمة أوروبا تجاههم، أو أحيانًا قسوتها، إلا أن هذه المرة يجبرك هذا العمل المسرحي أن تتضامن مع القضية السورية ليس فقط من أجل أنها قضية إنسانية، بل يجبر ذلك العمل المسرحي المشاهد أن يتضامن شعوريًا بما يحدث للنساء والأطفال في الحرب السورية، لتصل إليه الرسالة بشكل شعوري واضح.
تم إنتاج العمل الأساسي من قبل مجموعة من البريطانيات والسوريات، كان ذلك في عمان بالأردن عام 2013، لم يتضمن العمل فرق التمثيل فحسب، بل تضمن معالجين نفسيين، بالإضافة إلى المنتجين والصحفيين، كما احتوى العمل على 6 أسابيع من العلاج بالدراما أو بالتمثيل “drama therapy”، كان الهدف من جلسات العلاج بالدراما تلك هي توثيق وتأريخ القصص الحقيقية لشاهدات عيان من النساء على الحرب، وإعطائهن الحق في رواية خبراتهن التي عشنها بأنفسهن قبل الرحيل وبعد مغادرة سوريا، ليس فقط في جلسات خاصة بينهن وبين الطبيب النفسي المعالج، ولكن بشكل أكثر قوة وأكثر ثقة في النفس خارج حدود مخيمات اللاجئين، وذلك عن طريق روايتهن لما عشنه على خشبة المسرح بصوت قوي وأمام جمهور عريض.
لا تعتبر الأربع عشرة ممثلة في هذا العمل مجرد ممثلات على المسرح فقط، فهن أمهات، وبنات، وجدات، عشن الحرب بأعينهن، ليروونها أمام الجمهور بكلمات تعبر عن الحقيقة المجردة، بدون تزيين السياسيين، وبدون لغة الصحفيين المعقدة، ولا بآراء العالم المتضاربة.
على الرغم من رغبة فريق الإنتاج أن يتضمن العمل فريقًا متنوعًا وكبيرًا من النساء، تقمن بسرد روايات مختلفة عن تجاربهن الشخصية في كل عمل مسرحي يقام على المسرح، إلا أن الفريق واجه خجل العديدات من النساء من الوقوف أمام الجماهير لعرض قصصهن الشخصية، بالطبع كانت هناك صعوبة في رواية الفاجعة والحزن أمام الجميع، تلك القصص لم تكن سهلة عندما عاشتها ضحاياها، وبالطبع ليست سهلة عند استعادة ذكراها لروايتها أمام الجميع، ولكن لهذا أُسس ذلك العمل، الذي لا يحب أصحابه أن يتم وصفه بأنه إنتاج مسرحي فحسب، بل هو وسيلة للشفاء في محاولة لتخطي تلك الصدمة التي عاشتها تلك النساء.
يُلاحظ تصميم المسرح والأضواء بطريقة تقرّب الممثلين من الجمهور، فيمكن أن تشاهد العرض بدون تشتيت انتباهك نحو الإضاءة أو ديكور المسرح، وهو ما يجعل المشاهد ينصب تركيزه كاملًا على حديث الممثلات، وهو الأهم في العمل المسرحي كله.
تم توجيه أداء الممثلات كليًا للجمهور، فلا يوجد مشاهد حوارية بينهن، أو مشاهد تجمعهن في أداء تمثيلي مشترك، إلا عندما اجتمعن لأداء أغنية للجمهور، وهذا ما يعبر عن هدف العمل المسرحي باعتماده على تجارب لقصص حقيقة ترويها شاهدات بأنفسهن مباشرة إلى الجمهور، فهذا العمل لن يفيد الصحفيين بأرقام يبحثون عنها، ولن يفيد السياسيين بمعلومات خفية ينتظرون الكشف عنها، بل هو قائم على التعاطف مع ضحايا الحرب ليس إلا.
كسرت الممثلات حاجز الحزن بالتفاتهن نحو الجمهور وبدايتهن في تكوين حوار معه يعتمد على أسئلة الدردشة العادية، منها ” كيف تتصور نفسك إن كنت لاجئًا؟ و”هل تفتقد وطنك؟”، و”كيف سنحت لك الفرصة أن تمتلك هاتفًا ذكيًا؟”.
جاءت اللحظات السابقة كمجرد لحظات فكاهية افتعلها فريق التمثيل من أجل كسر حاجز الحزن والحاجز بينه وبين الجمهور، وهي اللحظات التي يرتبط فيها الجمهور بفريق التمثيل، ويشعر فيها بأنه ليس غريبًا عنه، فعلى الرغم من أن المسرحية لا تمتلك العديد من لحظات الفكاهة تلك، إلا أنها بالتأكيد جعلت من الجمهور يتقبل أكثر فكرة المسرحية الدرامية الأساسية.
يقدم العمل فرصة للجمهور لن يشاهدها في كثير من الأعمال المسرحية، ألا وهي وقوف الإنسان أمام جمهور عريض للتحدث عن حقيقته مجردة تمامًا من أي تزيين أو تجميل أو تحريف للكلمات، حينها يلمس الكلام قلوب الجماهير مباشرة، فتجد قصصًا حقيقية لنساء هربن بعد أن شاهدن أبناءهن قتلى، أو واحدة قررت الاحتفاظ بإبريق الشاي أثناء هروبها لأنها مرتبطة به بشدة ولأنه يذكرها بمنزلها وبوطنها!
استغلت تلك النساء القويات خشبة المسرح لتصوير كيف يكون رحيل المرء عن وطنه وكيف ينظر إليه للمرة الأخيرة، فوصفت إحداهن بأن سوريا هي زوجها، أو سوريا هي ابنتها أو ابنها، وأن الفراق صعب لدرجة كونها فارقت قطعةً من جسدها كما لو كانت سوريا أحد أبنائها بالفعل.
في إحدى تجارب المسرحية صرخت إحدى الممثلات قائلة “وما الفائدة؟” ما الذي يمكن أن يفعله المسرح ليوقف كل ما يحدث، ربما لأن الغرب يُقدر الفن ويستمع إليه، لهذا نحن نلف العالم بهذا العمل من أجل تمثيل صورة واقعية للحرب، نعم لقد أعطى هذا العمل للاجئين صورة أفضل في أذهان الغربيين، إلا أن الهدف الأسمى للمسرح لم يكن أبدًا فرض حل سياسي أو اجتماعي، بل هو ساحة للتنفيس عما بداخلنا معًا، لنحزن معًا ونفرح معًا، شهد الجمهور حينها مشهدًا مؤثرًا للمرأة المتحدثة وهي واقفة كالحجر تتساقط حبات الرمل من بين يديها، قائلة إنها مازلت تقف هنا حاملة تراب بلادها، فهو آخر ما أخذته منها قبل الرحيل.