بعد ساعات من محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة في تركيا انقسم الاقتصاديون إلى قسمين لا ثالث لهما، حيث يسيطر على القسمين التحيز الغريب في الحقيقة – إلا من رحم ربي -، فالقسم الأول يرى أن الاقتصاد التركي على مشارف الانهيار وأن تركيا عبارة عن فقاعة اقتصادية تنتظر الأسوأ، والثاني يقول إن الزعيم أردوغان صنع من الاقتصاد التركي أسطورة ويستطيع أن يصمد أمام الأزمات، بل إن محاولة الانقلاب ستدفع اقتصاد تركيا للأمام ولن يتأثر بهذه الصدمات، فأين الحقيقة؟ وهل اقتصاد تركيا فقاعة أم أسطورة؟.
في الحقيقة الأمر في غاية الصعوبة وتأييد أي القسمين سيكون ظلمًا بينًا، فلا نستطيع أن ننكر إنجازات أردوغان الاقتصادية، وأيضًا لا يمكن أن نتجاهل الوضع الاقتصادي التركي الذي يمكن وصفه بالمتأزم في الوقت الحالي، لكن النظر بعين واحدة سواء للإنجازات أو للمشاكل الاقتصادية، أمر لا يمكن أن يقبله عقل أو منطق وبعيد كل البُعد عن الحياد والواقعية، نعم أردوغان له إنجازات اقتصادية كبيرة، وهذا لا يعني أبدًا أن الوضع الحالي وردي ولن تكون فاتورته كبيرة.
في البداية يجب أن نعرف أن الاقتصاد التركي أبدى تماسكًا رائعًا في الأيام الأولى بعد محاولة الانقلاب، وهذه نقطة تحسب للحكومة التركية في الحقيقة، ولو كانت تلك المحاولة الانقلابية في دولة غير متماسكة اقتصاديًا وماليًا لرأينا موجة من الانهيارات الاقتصادية وهذا لم يحدث في تركيا.
التماسك التركي جاء لافتًا في الواقع، فالمستثمرون لم يروا حاجة حقيقة لسحب استثماراتهم أو أي جدوى لبيع ممتلكاتهم، كما أن المؤسسات المالية التركية تعاملت مع الموقف برصانة تستحق الإشادة سواء وزارة المالية أو البنك المركزي، وهذا الأمر انعكس على الأسواق المالية الدولية التي لم تتفاعل مع الأحداث سلبًا وذلك للشعور بزوال الخطر الذي كان يهدد الديمقراطية التركية.
في الواقع الصمود التركي أمام محاولة الانقلاب يجعلنا لا نستطيع أن نصف الاقتصاد التركي بالفقاعة ولو كان كذلك لكانت تلك الفقاعة انفجرت مع الساعات الأولى من محاولة الانقلاب، وللإنصاف تركيا فرضت نفسها على العالم كقوة اقتصادية جديرة بعضوية مجموعة العشرين وصاحبة إنجازات اقتصادية لا يمكن إنكارها ولا يسع المجال لسردها، والبعض يفضل أن يصفها بالأسطورة، ولكنني أراها تجربة لها نجاحات كبيرة وأمامها مستقبل جيد.
لكن هل هذا كل شيء؟ بالطبع الوضع ليس بهذه البساطة، فتركيا كانت تعاني مشاكل اقتصادية حادة قبل محاولة الانقلاب ومن المتوقع أن تتفاقم هذه المشاكل، لكنها ليست كوارث كما يصفها البعض، ويمكن السيطرة عليها على المدى المتوسط، حال نجاح أردوغان وحكومته في طمأنة المستثمرين وإعطاء حوافز إضافية لهم، وأرى أن الحكومة مدركة لهذا الأمر وقد برز ذلك في تصريح نائب رئيس الوزراء التركي محمد شيمشك، الذي قال إن اقتصاد بلاده لن يعاني إلى الأبد من محاولة الانقلاب الفاشلة وإن كان هناك أثر سلبي قصير الأمد على النمو، موضحًا أن العوامل الأساسية للاقتصاد الكلي في تركيا متينة، وأن الحكومة ستحول تركيزها بسرعة مجددًا باتجاه إجراء إصلاحات هيكلية.
المشاكل التي تعاني منها تركيا لا يمكن حلها عند طريق امتصاص صدمة الانقلاب الفاشل واستعادة الأسواق لعافيتها فقط، لأن الأمر أكبر من ذلك فالمشاكل التي نتحدث عنها ليست وليدة الانقلاب فهي قديمة بعض الشيء وطفت على السطح بعد التوترات السياسية التي مرت بها تركيا من خلال الانتخابات المتواترة، مرورًا بالتفجيرات التي ضربت أماكن متفرقة من البلاد خلال الأشهر الماضية.
فالسياحة التي تعد أحد أهم مصادر الدخل القومي التركي كانت قد تلقت ضربة موجعة هذا الموسم، كما زادت الضربة إثر الانقلاب الفاشل، ما ألغى بعض الحجوزات المسبقة وسفر بعض السياح، هذا الأمر وإن كانت بعض الشركات السياحية قد تعاملات معه من خلال برامج سياحية فورية، سواء تخفيض أجور الفنادق بنسب تصل إلى 40% أو زيادة عدد الجولات السياحية بنسبة 30%، إلا أن القطاع سيحتاج لبعض الوقت كي يعود إلى طبيعته، وربما تحسن العلاقات الروسية التركية سيعيد للسياحة جزءًا من نشاطها على المدى المتوسط.
المشكلة لا تكمن في السياحة فقط، فبعد الخبر الذي تناقلته وكالات الأنباء، الثلاثاء، المتعلق بوضع موديز إنفستورز سرفيس تصنيف تركيا وسنداتها البالغ “Baa3” قيد المراجعة لخفض محتمل، مشيرة إلى الحاجة لتقييم الأثر متوسط المدى للانقلاب العسكري الفاشل على النمو الاقتصادي ومؤسسات صناعة السياسات والاحتياطيات الأجنبية، كان هناك توجه عجيب من المحللين نحو الحديث عن ديون تركيا ووصفها بالكارثة الحقيقة التي قد تعصف بالاقتصاد التركي، وكأن ديون تركيا كانت مجهولة حتى كشفت موديز عن نية التخفيض!
موديز لم تتحدث عن تصنيف الديون فقط بل ذكرت أن الانقلاب الفاشل قد يؤثر تأثيرًا سلبيًا كبيرًا على منحنى النمو التركي، كما خفضت توقعها لنمو الاقتصاد التركي إلى 3%، وهذا الأمر برأيي غير مفاجئ في الحقيقة، ومن المتوقع خروج كل وكالات التصنيف “الأمريكية” بمثل هذه التخفيضات.
إذًا هل حقًا ديون تركيا كارثة تهدد البلاد؟ بالنظر إلى حجم الديون التركية فهو بالفعل رقم كبير، ولكن ليست خطرًا بنفس الدرجة التي تصورها البعض، فتركيا لم تقترض لتأكل كما هو الحال في كثير من الدول، ولكنها اقترضت لتنتج، وطالما أن عجلة الإنتاج مستمرة في الدوران فلا مشكلة في الديون، وإذا كانت الديون هي المقياس فعلينا أن نعيد النظر لديون كبرى اقتصادات العالم.
وما يجعلني أقول إن ديون تركيا ليست بهذا القدر من الخطورة أو لا ترتقي لوصفها بالفقاعة هو وضع الميزان التجاري التركي الذي يعد أهم مقياس اقتصادي لأي دولة، حيث انخفض عجز الميزان التجاري بنحو 21.3% في مارس على أساس سنوي ليصل إلى 4.97 مليار دولار بحسب وزارة الجمارك والتجارة التركية، فيما ارتفعت الصادرات بنسبة 3.22% إلى 12.79 مليار دولار في مارس بينما انخفضت الواردات 5.07% إلى 17.76 مليار دولار، وهذا الوضع أكثر من رائع ولا يمكن أن يكون هناك دولة لديها هذا الوضع وتعجز عن سداد ديونها.
والذي يجعل التفاؤل بالنسبة للاقتصاد التركي أقرب من التشاؤم هو ما أعلنه وزير المالية التركي ناجي أغبال، الجمعة، قبل ساعات من محاولة الانقلاب من أن حجم العجز في الموازنة العامة لتركيا في يونيو الماضي، بلغ 7.9 مليار ليرة (2.74 مليار دولار)، ما خفض إجمالي الفائض في الأشهر الستة الأولى من العام الحالي إلى 1.1 مليار ليرة (نحو 381 مليون دولار)، حسبما نقلت صحيفة “الشرق الأوسط”.
كما أن الاقتصاد التركي يتجه لتحقيق فائض في الموازنة ابتداءً من عام 2017، بعد أن نجحت تركيا في خفض العجز في الموازنة إلى 0.5% من الدخل القومي، البالغ أكثر من 800 مليار دولار، في عام 2015، بحسب الوزير.
في الوقت نفسه، تراجع عجز الحساب الجاري في تركيا خلال مايو الماضي إلى 2.9 مليار دولار، وبحسب المركزي التركي تدنى عجز التجارة الخارجية بميزان المدفوعات لشهر مايو الماضي بقيمة 1.724 مليار دولار، مقارنة مع الفترة نفسها من العام الماضي، ليستقر عند 3.764 مليار دولار، فيما تراجعت ميزانية الخدمات بقيمة 560 مليون دولار، ليستقر الفائض عند 1.378 مليار دولار.
الخلاصة: الاقتصاد التركي نموذج يحتذى به فيما يخص الأسواق الناشئة وهو تجربة أكثر من رائعة سواء سماها البعض بالأسطورة أو غير ذلك، لكن هذا أمر واضح ولا ينكره إلا شخص غير محايد وغير مدرك للواقع الذي عاشه المواطن التركي خلال آخر 10 سنوات ولمسه في كل القطاعات سواء الصحة أو التعليم أو الطرق والمواصلات وحتى الأسعار وخلافه.
في المقابل يواجه الاقتصاد التركي بعض المشاكل مثله في ذلك مثل كل الاقتصاد العالمي الذي يعاني الأزمات الخانقة وهذا الأمر واقع نلمسه جميعًا خاصة المتابعين للشأن الاقتصادي، لكن لم يصل لكونه فقاعة أو كارثة أو خلاف ذلك.