لقد مثلت محاولة الانقلاب في تركيا على حكومة منتخبة عبر الصندوق الانتخابي وبإجراء تلك الانتخابات مرتين، الاختبار الأصعب ليس على أردوغان فحسب وإنما على الانقلابيين أيضًا، فالصعوبة تكمن في محاولة الانقلابيين إعادة الشعب التركي إلى حظيرة الاستبداد والعبودية من جديد وما يصاحب ذلك من ويلات وكوارث سياسية واقتصادية وأمنية وحقوقية على تركيا وعلى محيطها الإقليمي المتوتر أساسًا، وصعوبة الاختبار من جهة أخرى بالنسبة للقوى التركية المعارضة لسياسية الحكومة بالوقوف مع الحكومة في هذا الاختبار الصعب وتجاوز الخلافات التكتيكية والنهج السياسي للعدالة والتنمية والتوحد لوهلة من أجل نجاح الدولة والمسار الديمقراطي استراتيجيًا.
للحرية ثمن يروى بالدماء لا مقولات جوفاء على لسان هذا وذاك وهي ممارسة وقيمة عليا يدركها الشعب التركي وقواه السياسية وأحزابه جيدًا وتترك كل الخلافات لأجلها، فلا تستطيع القوى أن تترك آليات الديمقراطية جانبًا من أجل انقلابات قادها قليلو الحيلة وعشاق السلطة بمنطق القوة العسكرية الأخرق ونهج القرن العشرين.
لقد فهم الشعب التركي وأحزابه طيلة العقدين الماضيين فضائل وقيمة الحرية والمسار الديمقراطي المتعثر، فلحظة ظهور أردوغان على الشاشة الصغيرة ومناداته الشعب التركي للنزول إلى الشوارع لحماية الديمقراطية والحكومة الشرعية كان بمثابة إلقاء لجزء من المسؤولية على الشعب التركي من أن يتخذ قراره، إما الاستمرار نحو بناء الدولة أو العودة إلى غياهب الاستبداد وظلاماته، تلك اللحظة خيم على الوجوه صدمة بأن الانقلاب حقيقة وليس كلامًا إعلاميًا، تلك الصدمة لاتزال عالقة في ذهني بتعبيرات الوجوه بين الصمت والغضب والبكاء ومنهم من نادى الناس بحشرجة في الصوت “هيا إلى التظاهر”، وينادون “يا الله .. بسم الله .. الله أكبر” مع تكبيرات في المساجد دعمًا للحرية والديمقراطية! ولأول مرة التاريخ.
يدرك الأتراك جيدًا خاصة الذين عاصروا 3 انقلابات سابقة ماذا يعني الانقلاب على الإسلاميين وعلى الحرية والاقتصاد والأمن والحقوق والحريات، يتوهم البعض بالقول أن من حمى تركيا من الانقلاب هم الإسلاميون ومؤيدو أردوغان والمتدينون وهذا صحيح! لأنهم الأكثر تنظيمًا وتعاطفًا ورغبة بالتضحية، فبعضهم دهستهم الدبابات وتهشمت رؤوسهم بسلاسلها فهذا ثمن الحرية، لقد كان الإسلاميون في الواجهة وأول من خرج لكنهم لم يكونوا وحدهم.
فعلى صعيد آخر هناك مواقف سياسية للأحزاب والقوى العلمانية والقومية المعارضة لأردوغان وقفت وقفة مشرفة سياسيًا مع استمرار المسار الديمقراطي والحكومة المنتخبة وهذا يحسب لها، هذه القوى لم تقف مع أردوغان كشخص وإنما حمت آلية الوصول إلى السلطة ناهيك على أن أردوغان وإصلاحاته لم تضر بالعلمانية سابقًا وهم يدركون ذلك وإنما عدلت مسارها الأتاتوركي الخاطئ الذي سن علمانية بخاصية معاداة الدين والمتدينين والقوى الإسلامية وهذا أضر بالعلمانية والديمقراطية وحقوق الإنسان ويتناقض معها أساسًا، فأعاد صياغتها بما يناسب المجتمع التركي ولا تتدخل بالدين والمتدينين وهم دافعوا عن تركيا بطريقتهم من أن تنتقل إلى العلمانية الاستبدادية التي تقمع الخصوم بالانقلابات.
لقد مثلت محاولة الانقلاب أن هناك جبل جليدي يخفي أكثر مما يظهر وهذا ما ظهر فيما أسموه “تنظيف المؤسسات” من شخوص الانقلاب والمتعاونين معهم ومن جماعة “فتح الله غولن” المصنفة إرهابية في تركيا، فستنتقل الصراعات مع الدولة العميقة في المؤسسات إلى صراعات بشكلها العلني بعد حادث الانقلاب وبحلول صفرية وقانونية واستكمال بناء الدولة بعيدًا عن الهياكل التي تنخرها من الداخل وقد تعيدها إلى مرتع للفساد والاستبداد بلحظة غفلة أو تآامر مع قوى لا تريد استقرار الحصن الأخير لقوى الإسلام السياسي وتجربته الناجحة وقواه الهاربة من جحيم الانقلابات في المنطقة العربية.