لقد نجت تركيا من محاولة انقلابية فاشلة بدأ التنفيذ الفعلي لها بعد ظهر الجمعة 15 يوليو الحالي، وقد أدى تجمع عدة جهود إلى إفشال الانقلاب كان من أهمها الشكوك الموجودة لدى جهاز المخابرات العامة وعدم تعاطي قسم من قادة الجيش مع الانقلابيين ومن ثم نجاة الرئيس رجب طيب أردوغان من الاغتيال أو الاعتقال من مكان عطلته في مدينة مرمريس وخروجه على الإعلام وتوجيهه رسالة للناس والجماهير للخروج إلى الميادين ومنع المحاولة الانقلابية، وقد عمل خروج الرئيس والتأكد من بقائه على قيد الحياة وإمكانية تواصله مع الإعلام إلى بث روح معنوية عالية بعد دقائق من تلاوة بيان الانقلاب على القناة التركية الرسمية، وهنا أيضًا كان للإعلام دور ممتاز في إفشال الانقلاب وحث الناس على مقاومته.
لقد ضرب الشعب التركي مثالاً ناصعًا ونموذجًا واضحًا على تجذر وعيه بقيم الديمقراطية واستعداده للتضحية من أجل الحفاظ عليها كيف لا وهو الذي عانى من ويلات انقلابات سابقة سببت في تراجع البلاد في كافة المجالات، وقد أدت هذه التحركات بمجموعها إضافة إلى دور القوات الخاصة والمخابرات التي ألقت القبض على عدد كبير من منفذي المحاولة الانقلابية إلى إفشال المحاولة بعد عدة ساعات.
بالتأكيد لن يمر هذا الحدث التاريخي على تركيا دون تداعيات على المستويين الداخلي والخارجي، على المستوى الداخلي لن تتعامل الدولة مع جماعة جولن كما تعاملت معها من قبل، ولا يعني هذا أن الدولة كانت متهاونة مع الجماعة بل عملت على ملاحقتها وإضعافها وهذا كان له دور في إحباط المخطط بشكل أو بآخر، فهذه المرة سوف تعمل الدولة على اقتلاع الجماعة من جذورها وتصفية وجودها في تركيا وفي الخارج وبالفعل بدأت بعض الدول في إغلاق المدارس التي تشتهر بها الجماعة في داخل وخارج تركيا وصدر قرار بسحب ترخيص 15 ألف من معلمين يعملون في مدارسها الخاصة ويتم الآن ملاحقتها في كافة مؤسسات الدولة وتحديدًا الجيش والقضاء وفي المؤسسات الخاصة أيضًا.
أما الانعكاس الآخر فهو أن الدولة والحكومة ستعمل على إنهاء ما يسمى بثقافة الانقلاب في تركيا، حيث أثبتت المحاولة الفاشلة أن عددًا ليس باليسير في قطاعات الجيش وخاصة العليا منها لم يكن يؤمن بالديمقراطية وكان يتحين الفرصة للانقضاض على المسار الديمقراطي في البلاد.
وفي هذا السياق من المرجح أن تضع الدولة معايير خاصة للجنرالات والضباط الذين سيحلون في مواقع الضباط الانقلابيين وهنا قد تبرز بعض المشاكل مع مؤسسات دولية مثل الناتو ومع الولايات المتحدة في تحالفها العسكري الذي تقوده ضد الإرهاب في المنطقة، لكن يتوقع أيضًا أن يتم تجاوز هذه المشاكل لأن هذه الدول والمؤسسات معنية بالاستقرار في تركيا.
فيما يتعلق بالعودة إلى تفعيل حكم الإعدام في تركيا فإن هذا إن حصل وهو ما يطالب به الشعب حاليًا ولا يبدو أن هناك عوائق فعلية أمام تنفيذه مع إبداء حزب الحركة القومية عدم ممانعته، فإن هذا سيخلق لتركيا مشاكل مع الدول الغربية التي تعد نفسها حامية الديمقراطية والتي تحوم حولها شكوك كبيرة بأنها كانت سترحب بالانقلاب في حال نجاحه هذا إن لم تكن مساهمة في التخطيط له أو تشجيع منفذيه.
داخليًا أيضًا سيتم العمل على تعزيز الوعي لدى الشعب الذي رفض الانقلاب على حقوقه وعلى قراره وسيادته وسيكون تاريخ الانقلاب الفاشل نقطة تحول وانطلاق نحو تركيا الجديدة.
أما على مستوى السياسة الخارجية فإن وجود جيش تملأ الحكومة يدها منه سيجعل اتخاذ القرارات أكثر أريحية وسيمنع تورط الدولة في مشاكل كثيرة خاصة أن أحاديث دارت أن الأزمة مع روسيا بسبب إسقاط الطائرة الروسية والتي شلت التحركات التركية في سوريا كان يقف وراءها ضباط انقلابيون.
فيما يتعلق بالعلاقة مع واشنطن فإن تسليم فتح الله جولن سيكون عاملاً مهمًا في تحديد نوع العلاقة التي يبدو أنها منهارة نسبيًا في الوقت الحالي، إذ عبرت أوساط تركية عديدة عن اعتقادها الجازم أن الولايات المتحدة لها دور فيما حدث خاصة مع موقفها المتردد مع بداية إعلان الانقلاب، لن يكون من السهل حدوث تغيير في محددات العلاقات التركية الأمريكية ولكن الثقة متضعضعة وقد بدا هذا واضحًا في رسالة رئيس الوزراء إلى واشنطن والعواصم الغربية التي بدا بعض ردودها مستفزًا وأظهرت ازدواجية واضحة للمعايير.
إن وجود شكوك حول دعم دول غربية وإقليمية لمحاولة الانقلاب أمر طبيعي وكذلك إعلان هذه الدول المشكوك فيها دعمها للانقلاب بعد فشل المحاولة لهو دليل على أن هذه الدول تريد أن تدعم انقلابًا ناجحًا يعمل على إبعاد صداع تركيا عن الإقليم وهو يوضح أن تركيا برغم أوضاعها الصعبة كانت تشكل عقبة أمام حلول خارجية لمشاكل الإقليم، لا تريد هذه الدول شبه انقلاب أو فوضى لأنها تعلم أن الآثار ستصل إليها وخاصة أوروبا التي تجاور تركيا.
ستزداد حساسية تركيا تجاه الانقلابات وهذا سيعمل على عرقلة أو إبطاء عملية المرونة التي كانت تبديها تجاه مصر قبل وقوع المحاولة الانقلابية، كما أن الدور التركي مع مزيد من القوة في الداخل سيكون أقوى على المستوى الإقليمي وتحديدًا في الملف السوري، وسيتم عمل إعادة تقييم لكافة القضايا لأن الوضع الداخلي كان مدخلاً أساسيًا في تحديد الموقف التركي من هذه القضايا.