منذ الإطاحة بالعقيد معمر القذافي في 2011 باتت الأراضي الليبية قصعة مستباحة لكل القوى وساحة شاسعة للصراعات الداخلية وبستان وارف الظلال للتدخلات الخارجية، مما أوصلها إلى هذه الحالة المعقدة سياسيًا والتي بات الحديث فيها عن التوافق ولم الشمل دربًا من دروب الخيال.
130 مليار دولار، حجم ما تبقى من ثروات ليبيا المنهوبة، أسالت لُعاب القوى الدولية، مما دفعها – بطريقة علنية أو خفية – للسعي وبكل قوة للحصول على نصيب من هذه “الكعكعة” سهلة الهضم والبلع كما يقول الخبراء، من خلال البحث عن موضع قدم لها داخل التراب الليبي، وذلك عبر توظيف شعارات إنقاذ ليبيا، والقضاء على الإرهاب، ومحاربة تنظيم الدولة، وما إلى غير ذلك من المبررات التي تكشف زيفها للعالم مؤخرًا.
ثم جاء الإعلان عن مقتل خمسة جنود فرنسيين داخل الأراضي الليبية اليومين الماضيين ليلقي بظلاله القاتمة على المشهد العام، خاصة بعد التعتيم الفرنسي طيلة الفترة السابقة على تواجده العسكري داخل ليبيا، ليضع عددًا من التساؤلات حول الأهداف الحقيقية لهذا التواجد الفرنسي، فضلاً عن أسباب إخفاء هذا التواجد، ثم التساؤل الأكثر شمولية: ماذا عن التواجد الأجنبي الآخر داخل الأراضي الليبية؟ وما موقف الحكومة من هذا التواجد فضلاً عن الموقف العربي من نهب ثروات دولة شقيقة على أيدي القوى الغربية؟
الوجود الفرنسي: لماذا؟
ما كان لأحد أن يعلم شيئًا عن الوجود العسكري الفرنسي في ليبيا، لولا الإعلان عن مقتل 3 جنود فرنسيين الأحد الماضي، مما فتح الباب للتكهنات والتأويلات حول ماهية هذا التواجد والأهداف التي يسعى لتحقيقها.
صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية تطرقت فيتقرير لها إلى ملابسات مقتل الجنود الفرنسيين، حيث أشارت إلى استهداف مروحيتهم من قبل إحدى الميليشيات المسلحة المعروفة باسم “لواء شورى بنغازي”، وهو ما أعلنت عنه وزارة الدفاع الفرنسية بشكل مؤكد.
الصحيفة تناولت بشيء من التفصيل العلاقة القوية بين القوات الفرنسية المتواجد بليبيا والجنرال خليفة حفتر، حيث أكدت أن المروحية التي سقطت بالجنود الفرنسيين تابعة لقوات حفتر، وأن جميع المعدات العسكرية لجيش الجنرال تحت تصرف الجنود الفرنسيين هناك.
وبحسب الصحيفة الأمريكية فإن التواجد الفرنسي داخل ليبيا قديم، حتى وإن أخذ صورًا متعددة، وسواء كان التواجد في صورة بعثات مؤقتة أو إقامة دائمة، إلا أن باريس تسعى من خلال تواجدها إلى تحقيق هدفين اثنين، الأول: الحصول على جزء من ثروات ليبيا حسبما مهد لذلك حفتر ورجاله، الثاني: تصدير صورة للعالم أن فرنسا دائمة الحضور ضد الإرهاب في كل مكان بالعالم، بصرف النظر عن حجم هذا التواجد.
الدفاع الفرنسية بررت تواجدها في ليبيا بتقديم المساعدات العسكرية والفنية، فضلاً عن محاربة تنظيم داعش الإرهابي، كما أقر بذلك الرئيس فرانسوا أولاند بالقول “جمع معلومات للمخابرات” فيما تحدث وزير الدفاع جان أيف لو دريان عن “مهام خطرة في مواجهة الإرهاب لاسيما وأن هناك وبحسب تقديرات الخبراء ما بين 2000 إلى 5000 مقاتل داعشي داخل الأراضي الليبية، وهو ما أكدت عليه صحيفة “لوموند” الفرنسية، حيث تحدثت لأول مرة عن وجود قوات خاصة في فبراير الماضي، قائلة إن عدة آلاف من الجنود الفرنسيين يقومون “بعمليات سرية” ضد داعش في ليبيا، مضيفة أن غارة جوية شنتها القوات الفرنسية في نوفمبر الماضي قتلت أبي نبيل الأنباري، الذي يعتقد أنه رجل داعش في ليبيا، والمرجح أن يكون المقاتل الذي ظهر في مقطع الفيديو المصور والذي تم بثه في فبراير 2015 وهو يقطع رؤوس 21 عاملاً مصريًا مسيحيًا في ليبيا.
التقرير أشار إلى أنه وبالرغم من عدم وجود تاريخ محدد للوجود العسكري الفرنسي داخل الأراضي الليبية، إلا أنه من المؤكد لم يكن بعد 2014، حيث أشارت كافة التقارير الاستخباراتية إلى وجود عناصر فرنسية داخل ليبيا لدعم قوات حليفة حفتر في مواجهة الحكومات المنتخبة والمتفق عليها دوليًا.
جدير بالذكر أن السلطة التنفيذية في ليبيا تعاني من انقسام حاد، ما بين حكومتين متصارعتين، مدعومتين من مختلف الميليشيات والقبائل، إحداهما للجنرال المتقاعد والمؤيدة من فرنسا، والثانية هي حكومة الوفاق الوطني المدعومة من بعض القوى الدولية الأخرى.
ماذا عن التواجد الأجنبي؟
بعد الكشف عن التواجد الفرنسي داخل الأراضي الليبية، بات الحديث عن وجود قوات أجنبية أخرى أمرًا غاية في الأهمية، وهو ما أشارت إليه صحيفة “جون أفريك” والتي أكدت أن هناك قوات خاصة لبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية وإيطاليا، حسبما أكدت بعض وسائل الإعلام البريطانية والأمريكية.
أما عن أهداف هذا التواجد فكما نقلت الصحيفة هو التعرف على التضاريس وتحديد مواطن القوى الموجودة على اﻷرض وجمع معلومات استخباراتية، كما هو مبين من قبل وزارة الدفاع الأمريكية، التي أشارت إلى ضرورة مراقبة ليبيا، بسبب وجود “جهاديين”.
ومن المعروف أن قوات العمليات الخاصة الأمريكية تتمركز في موقعين بشرق وغرب ليبيا منذ أواخر 2015، وتقوم بالتنسيق مع الميليشيات المتحالفة مع الغرب، حسبما أشار مصدر في البنتاجون.
وخلال الأعوام السابقة شنت الولايات المتحدة وبريطانيا وبعض قوى التحالف الدولي غارات جوية مكثفة على عدد من المدن الليبية يظن أنها مراكز قوى لتنظيم داعش الإرهابي، كما أعلنت في أكثر من محفل عن سقوط العشرات من عناصر التنظيم جراء هذا القصف.
الصحيفة أشارت إلى أن رئيس حكومة الوفاق الوطني الليبية فايز السراج اعترف أواخر يونيو، أن قوات بلاده تتلقى مساعدات خارجية “خبرات وخدمات لوجستية” يمكن أن تشمل المساعدة في تحديد واستهداف مقاتلي الدولة اﻹسلامية، لكن يبقى السؤال: هل كان السراج على علم بوجود قوات عسكرية تقوم بمهام سرية داخل الأراضي الليبية دون التنسيق معه؟
تحركات قذرة!!
“إن ما يدفعك إلى تصنيف أعمال البعثات الاستخبارية والأمنية السرية الأجنبية في ليبيا ضمن المهام غير النظيفة أو القذرة، هو سريتُها في مقام أوّل، فلا يُمكن لمَن يأتي إلى بلد مضطرب تحت جنح الظلام وتُصدر حكومة بلده صباحًا ومساءً بيانات الإنكار والنفي والتنصل، أن يكون قادمًا كي يساعد على إعادة النازحين الليبيين أو معالجة المرضى أو حلّ مشكلة الفقر أو الغلاء أو سيطرة الميليشيات في المدن الليبية!!..” بهذه الكلمات استهل الكاتب الصحفي دي فالتير فيتشيليو مقاله في صحيفة “لافوتشي ديل إيزولا” معلقًا على مقتل الجنود الفرنسيين في ليبيا.
وأضاف الكاتب ولو كان يعمل لأجل ذلك لأعلنه ومارس شتى ضروب الرياء والمَنِّ والتفاخر، ولو كان ينوي ذلك، لكان قد ملأ الآفاق والشاشات بالصور والمقاطع التوثيقية حتى يكسب ودّ الشعب الليبي في نكبته، لذلك يمكنك منذ البداية أن تقول إن أعمال الأجهزة السرية الأجنبية في ليبيا قذرة دون مناقشة ودون تفصيل، لأنها سرية، ثم خُذْ ما شئت من وقت في البحث عن الأدلة، ولن تصادف الكثير من العناء، فالأدلة موجود في الاقتتال الدائر بين المليشيات، وفي تمدّد الدواعش، وفي الاختراقات اليومية لشاحنات المهربين وقوافل المهاجرين عبر البر والبحر، وشحنات السلاح وسفن سرقة النفط وتهريبه، وفي التآمر على الجيش الليبي في الشرق وببنغازي بالذات، وغير ذلك.
كما يمكنك أن تجد الأدلة على أن هذه المهام قذرة ولا تريد الخير لليبيين في كل مكان، سواء داخل التراب الليبي أو ببلدان الجوار، وما يحدث بالمناطق الحدودية بين ليبيا وجيرانها معلوم لدى حكومات الغرب التي يمكنها رصد حركة أي جسم متحرك على البر أو في عرض البحر براداراتها وأقمارها الصناعية ومحطات التجسس الموجودة على ظهور بوارجها، وعن طريق عملائها بالداخل، وكل الإمكانيات التي قد استفادت منها لتحطيم ليبيا في عام 2011!!
واختتم الكاتب الإيطالي مقاله بالتقليل من شأن الاعتقاد أن مجرد قيام حكومة ومؤسسات مدنية قد يحل مشاكل ليبيا، فهذا وهْمٌ كبير، لأن من يُفترض أن يحمي هذا المسار ويتولى تأمينه هي الميليشيات التي كانت تتصارع إلى حد أيام قليلة ماضية، وتتقاتل وتُروع الأهالي والمجتمع المدني والسياسي على حد سواء! متسائلاً: عليك أن تطرح أسئلة كثيرة حول علاقة الخارج بهذه الميليشيات؟ وهل أن دعمه للمسار السياسي التوافقي سوف يعني قطع الحبْل السُّري بينه وبينها؟ وإذا صح ذلك، فما الداعي إلى تواجده “غير المعلن” داخل البلد؟ وما الداعي إلى وجود المئات بل الآلاف من أفراد القوات الخاصة الغربية على الأراضي الليبية إذا لم تكن لها أغراض من شأنها الإضرار بليبيا وبأهلها؟
الليبيون يرفضون
في أول رد فعل رسمي حول التواجد العسكري الفرنسي غير المعلن داخل الأراضي الليبية، شنّت حكومة الوفاق الوطني الليبية هجومًا عنيفًا ضد فرنسا، وأتهمتها بـ”انتهاك” أراضيها.
الحكومة أعربت في بيان نشر على صفحتها على فيسبوك عن “استيائها” من إعلان باريس وجود قوات فرنسية في ليبيا، مؤكدة رفضها لهذا الوجود العسكري الذي رأت أنه يشكل “انتهاكًا لحرمة التراب الليبي”.
وقال البيان “يعرب المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني عن استيائه البالغ لما أعلنته الحكومة الفرنسية عن تواجد فرنسي في شرق ليبيا”، وأكدت الحكومة المدعومة من الدول الكبرى، أن “الثوابت التي أعلن عنها مرارًا من أن لا تنازل مطلقًا عن السيادة الليبية، ورفضنا الكامل لانتهاك حرمة التراب الليبي”.
وشددت الحكومة على أن ترحيبها بأي مساعدة أو مساندة تقدم لها من الدول الشقيقة والصديقة، في الحرب على داعش، لا يبرر أي تدخل دون علمها ودون التنسيق معها ودون مراعاة لما أُعلن بشأن حرمة التراب الليبي”، مشيرة إلى أنها أجرت اتصالات مع السلطات الفرنسية لمعرفة “أسباب وملابسات” التواجد العسكري وحجمه.
وشعبيًا، نظم الليبيون عددًا من التظاهرات في العاصمة طرابلس ومدينة مصراتة ومدن أخرى بعد ساعات من إعلان الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند مقتل ثلاثة جنود فرنسيين خلال مهمة استطلاع في ليبيا، معلنين رفضهم للتواجد الأجنبي فوق أراضيهم، متعهدين بقدرتهم على تحرير بلادهم من التنظيمات الإرهابية المسلحة.
مما سبق يتضح أن هناك العديد من الأصابع الاستخباراتية الدولية تلعب داخل التراب الليبي، وما الإعلان عن الوجود الفرنسي إلا حلقة واحدة من مسلسل التواجد الأجنبي المكثف للحصول على نصيب من “الكعكة” الليبية، ليبقى السؤال: أين الدور العربي من هذا الغزو المقنن للأراضي الليبية؟ وما الموقف الرسمي العربي من نهب الثروات الليبية ليل نهار أمام مرأى ومسمع من العالم أجمع؟