فشلت المحاولة الانقلابية في تركيا، وما زالت أصداؤها جارية في المشهد التركي، حيث تُجري الحكومة التركية المنتخبة الآن حملات تطهير موسعة في صفوف مؤسسات الدولة، لا سيما المؤسسات الأمنية منها، ولم تقتصر الحكومة التركية في ردها على المحاولة الانقلابية بالمؤسسات الأمنية فحسب، بل طالت هذه الحملة مؤسسات مدنية كالتعليم والقضاء والإعلام.
حصلية هذه الحملة اعتقال وإقالة السلطات التركية لما يبلغ 50 ألف شخص (9004 حالة اعتقال بحسب تصريحات الرئيس أردوغان) من مختلف الجهات والمؤسسات الرسمية في الدولة، في أعقاب محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة، الجمعة الماضية.
النصيب الأكبر من الاعتقالات كان بالطبع للعسكريين، حيث تخطت الاعتقالات من العسكريين رقم 6 آلاف برتب مختلفة، من بينهم ما يزيد عن 120 جنرالًا، وعلى صعيد الشرطة عزل 8777 مسؤولاً في وزارة الداخلية التركية من مناصبهم.
إنفوجرافيك: حصاد عملية التطهير التي تلت الانقلاب الفاشل في #تركياhttps://t.co/xefXe0UWU0 pic.twitter.com/ZrjdLB7XCl
— نون بوست (@NoonPost) July 20, 2016
بعيدًا عن الأجهزة الأمنية التي تورطت أعداد كبيرة منها في المحاولة الانقلابية، أدرج 2745 قاضيًا ومدعيًا عامًاعلى قائمة المطلوبين للاعتقال ولكن من غير الواضح ما إذا اعتُقل جميعهم أم لا، بالإضافة إلى إيقاف عشرات غيرهم عن العمل في أجهزة قضائية مختلفة وصلت حتى المحكمة الدستورية، كما اعتقل 650 مدنيًا على خلفية التحقيقات.
وكذلك طالت الحملة التركية الإدارات المحلية، حيث تمت إقالة 30 حاكمًا إقليميًا من مناصبهم، وكذلك إقالة 52 مفتشًا مدنيًا.
القطاع التعليمي ناله القسط الأكبر من الإقالات والوقف عن العمل بعدما ألغت الحكومة رخصة 21 ألف مدرس في مؤسسات تعليمية خاصة، وأوقفت 15.200 من الموظفين في وزارة التعليم عن العمل وإخضاعهم للتحقيق، كما طالبت الحكومة 1577 عميدًا بمؤسسات تعليمية عليا بالاستقالة.
وعلى الصعيد الإعلامي ألغت الحكومة رخص بث مجموعة من القنوات والإذاعات، وأوقفت 370 موظفًا عن العمل في هيئة “TRT” للإذاعة والتلفزيون الحكومية.
التهمة الرئيسية المشتركة
التهمة المشتركة بين هذه الأعداد هي الانتماء لحركة الخدمة أو ما يُعرف بـ “الكيان الموازي” بعدما أعلنت الحكومة أن الحركة وزعيمها “فتح الله غولن” المتهم الرئيس في هذه المحاولة الانقلابية الفاشلة، وطالبت الحكومة التركية بتسليم غولن المقيم في ولاية بنسلفينيا في الولايات المتحدة الأمريكية.
شاهد | فتح الله #غولن، المطلوب الأهم لدى #تركيا والمتهم بتخطيط الانقلاب.. فمن يكون هذا الرجل؟ pic.twitter.com/1h54qZ8nnG
— نون بوست (@NoonPost) July 20, 2016
ورغم أن الحكومة صنفت الحركة كـ “كيان إرهابي” إلا أنه من المعروف أن لديها مئات المؤسسات التعليمية والإعلامية والتجارية الضخمة في تركيا، وأن لها من الأتباع الكثيرين داخل مؤسسات الدولة المختلفة، وقد اتهمت بمحاولة صناعة كيان موازي داخل مؤسسات الدولة لا يخضع للحكومة وإنما لقيادة الحركة، وعليه قامت حكومة العدالة والتنمية بتصفية الكثير من هذه المؤسسات وضمها إلى الدولة على خلفية هذا الاتهام منذ قرابة خمس سنوات، وكذلك عملت على كشف أعضاء الحركة داخل مؤسسات الدولة وإحالتهم للتحقيق الذي ينتهي غالبًا بالإقالة.
ردة فعل متفهمة على محاولة انقلاب دموية
ردة فعل الحكومة التركية المنتخبة على هذه المحاولة الانقلابية متفهمة جدًا لدى كثيرين، حتى إن الأحزاب المعارضة التركية أيدت قرارات الحكومة الاحترازية بعد محاولة انقلاب استخدمت مقاتلات F-16 والدبابات أمام المواطنين وإرادتهم، وقصفت البرلمان التركي، وحاولت اغتيال رئيس الجمهورية، وانكشفت خطتها لتصفية واعتقال ما يزيد عن 50 ألف شخصية داخل الدولة بحسب التحقيقات، وقتلت ما يزيد عن 200 مدني وعسكري في بضعة ساعات.
لذا ردود الأفعال الرسمية التي يمكن وصفها بـ “الثورية” داخل صفوف الأجهزة الأمنية ذات طبيعة العمل الحساسة غير مستغربة، بل ويتوقع أن تكون في ازدياد الفترة القادمة، بعد اكتشاف أن ما حدث كان رأس جبل جليدي لديه قاعدة ضخمة تضرب بجذورها في أجهزة الدولة المختلفة، وبالتحديد العسكرية منها.
فتطهير المؤسسات الأمنية من العناصر الانقلابية أيًا كانت انتماءاتهم للكيان الموازي أو لغيره ضرورة للحفاظ على التجربة الديمقراطية التركية من تغول السلاح وتقويض الشرعية الدستورية في البلاد، ومن خلال هذه الإجراءات الثورية في هذا القطاع بالتحديد يمكن وأد فكرة التغيير باستخدام الدبابة داخل تركيا بعد معاناة لعقود من الانقلابات العسكرية التاريخية، فهي فرصة تاريخية لحكومة العدالة والتنمية بأن تضع المؤسسة العسكرية التركية في مكانها الصحيح، قبل أن تكون ردة فعل على محاولة الانقلاب الفاشلة.
نسقان من التطهير يجب التفرقة بينهما
ولكن مع تقدير ردة الفعل الطبيعية على محاولة انقلاب عسكري دموية كهذه، يبدو أن هناك حملة موازية خارج الأجهزة الأمنية تتبع أعضاء الكيان الموازي في مختلف أجهزة الدولة، ويبدو أيضًا من التتابع السريع للأحداث والقرارات، أن هذه القوائم داخل أجهزة الدولة ليست وليدة لحظة الانقلاب الفاشلة.
وإنما كما صرح الرئيس التركي أردوغان أن أعضاء الكيان داخل الدولة يجري تتبعهم منذ سنوات، وحالت تعقيدات قانونية دون اتخاذ الموقف اللازم تجاههم، وعليه يمكن قراءة هذه القرارات أنها استغلال للحظة الاستثناء داخل الجمهورية التركية، لوضع قواعد جديدة للعب، وإن كان الأمر متفهمًا و”ضروريًا” داخل المؤسسات الأمنية (الجيش – الشرطة – الاستخبارات)، فإنه مختلف تمامًا حينما نتحدث على الصعيد المجتمعي والشعبي.
بالتأكيد هناك ضلوع للحركة بنسبة ما في التحركات العسكرية الأخيرة ضد الحكومة التركية، وقبل هذا الحادث تعمل الحركة بشكل غير خفي على عرقلة حكم حزب العدالة والتنمية بحكم الصدام الذي اشتعل بين الطرفين منذ سنوات.
إلا أننا في هذه اللحظة أمام تنظيم ضخم الجانب السري منه أضعاف المعلن عنه، كما لا يخفى على الحكومة التركية بالتأكيد أن حركة الخدمة لها شبكة اجتماعية داخل المجتمع التركي بالغة التعقيد، وعلى تواصل مع شرائح كبيرة ومختلفة داخل الدولة التركية سواء قبل ظهور العدالة والتنمية في الحياة السياسية التركية أو بعد ذلك.
لأن هذه الحركة حاولت أن تبتعد عن الصدام السياسي لمدة تتجاوز 30 عامًا، عملت خلالها على التوغل في جذور المجتمع التركي، بمهادنة السلطة الموجودة على رأس تركيا أيًا كان توجهها، وهو ما ظهر في تأييدها الانقلابات العسكرية المتوالية، في مقابل الحفاظ على هامش عمل مجتمعي.
ظهرت تجليات هذا العمل على مدار السنوات الماضية، في شبكة هائلة من المنظمات الاجتماعية والتعليمية، وكذلك عشرات المؤسسات الاقتصادية الضخمة برؤوس أموال هائلة تفوق توقعات الكثيرين، نمت وخرجت إلى ما بعد تركيا، وانتشرت في عشرات الدول حول العالم.
وفي الداخل التركي نحن نتحدث عن حركة ذات فكر ولائي الطابع، تغرسه في أعضائها منذ الصغر إلى أن يتسلم منصبه داخل الدولة، شأنها في ذلك شأن الحركات الأيديولوجية، لكن ما حدث في تركيا أن هذا الولاء التنظيمي تخطى مسألة العمل الاجتماعي إلى مسألة تكوين جيوب داخل الدولة لتقويض الحكومة الشرعية، باستخدام الحاضنة الاجتماعية المتوافرة لهذه الحركة.
وليس دليل على ذلك أكبر من شهادة عسكريين متورطين في محاولة الانقلاب الأخيرة أثناء التحقيقات معهم، حيث اعترف بعضهم بالانتماء للكيان الموازي منذ الصغر، إلى أن وصل إلى مناصب هامة داخل الجيش التركي، حتى استطاع هؤلاء التنصت على قيادة الأركان التركية لعشرات السنوات دون دراية من الدولة، من خلال مناصبهم الحساسة.
كما أن الحركة استطاعت أن تدخل آلاف من أعضائها إلى السلك الحكومي عن طريق تسريب اختبارات التعيين، وذلك بحسب الشهادات المنشورة مؤخرًا مع العديد من المتورطين في المحاولة الانقلابية، كما أن هناك قضايا سابقة لمحاولة الانقلاب ينظرها القضاء التركي تتعلق بمسألة تسريب اختبارات الوظائف في الدولة.
مستويات التعامل مع التطهير
إذن نحن أمام شبكة اجتماعية معقدة لها العديد من المستويات، ولا يمكن وضع البيض هنا في سلة واحدة، فالمواطن التركي الذي يستفيد من الخدمات الاجتماعية للحركة لا يمكن اتهامه بالضلوع في “محاولة الانقلاب”، ولا يستوي هذا مع من تآمر بالفعل وبالتحقيقات على هدم التجربة الديمقراطية التركية.
وكذلك من الطبيعي جدًا لأي حركة اجتماعية أن يكون لها العديد من الأنصار والمتعاطفين داخل أجهزة الدولة، ولا يمكن إدخال هؤلاء بأي حال في آتون الصراع طالما لم يتورطوا في أعمال مخالفة للقانون.
حيث يمكن تخيل حجم الضرر المجتمعي الذي سيحدث بعد انتهاء لحظة الاستثناء هذه، إذا لم تعالج قضية “الكيان الموازي” بنوع من الجراحة الدقيقة، التي تستأصل الأورام من جسد المؤسسات التركية، دون أن تجور على الشبكات الاجتماعية المتعلقة بهذه الحركة الضاربة بجذورها في المجتمع التركي.
هل يمكن اجتثاث حركة اجتماعية أيديولوجية؟
التجارب العملية أثبتت استحالة هذا الأمر لأنه متعلق بالنسيج المجتمعي وليس بإرادة السلطة فحسب، ومحاولة الحكومة التركية التصدي لأعضاء الكيان الموازي باستراتيجية “الإفناء” سيكون تجربة مكررة مصيرها الفشل.
ولا يوجد أية مثال أقرب لهذا من الحالة المصرية بعد الانقلاب العسكري منذ 3 سنوات، حيث يحاول نظام السيسي القضاء على الجماعة بالدخول معها في معركة صفرية، لم تحسم حتى اللحظة بعد اعتقال 60 ألف من دوائر الجماعة المختلفة، وقتل بضعة آلاف منهم، وقد حاول عبدالناصر تاريخيًا في هذا الأمر في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، وظهرت الجماعة مجددًا عقب موته مباشرة.
التجارب التاريخية والواقعية تقول إن تأمين التجربة الديمقراطية يكون بإبعاد عنها عوامل الفشل التي تأتي من داخل مؤسسات الدولة “وهو معنى التطهير الذي تقوم به الحكومة الآن في صفوف الأجهزة الأمنية”، أما المواجهات الاجتماعية فتترك للمؤسسات الاجتماعية طالما سيكون الأمر في إطار القانون، وهو ما يعني ضرورة عدم التوسع في الحملات على المستوى المجتمعي والاكتفاء بتصفية الجيوب داخل مؤسسات الدولة التي تعمل خارج إطار القانون.
هل سيشرع العدالة والتنمية في صناعة دولته العميقة؟
هذا السؤال ربما تجيب عليه الأيام القادمة، لكن مما ظهر مؤخرًا من وقائع وأحداث بعد محاولة الانقلاب الفاشلة يتأكد للمشاهد أن حكم العدالة والتنمية لتركيا لمدة 14 عامًا تقريبًا لم يكن توغلًا في مفاصل الدولة كما ردد وتوهم البعض، وإنما كان صراعًا معها، حتى تكشف حجم هذا الصراع داخل اللحظة الاستثنائية هذه.
ولكن الوضع يطرح تساؤلات عن مدى جاهزية حكومة العدالة والتنمية لسد ثغرات عملية التطهير، حيث ستنتج هذه العملية بلا شك فراغًا في العديد من المواقع الحساسة داخل الدولة، وعلى الحكومة أن تتدخل لملء هذا الفراغ سريعًا إما بكوادر مصعدة بالسلم الوظيفي، أو بكوادر الحزب الحاكم في المناصب السياسية، وسيكون هذا اختبار وبلا شك لقدرة وفعالية الحكومة والحزب في إدارة هذه اللحظة، مع مراعاة تداعيات الأمر على الصعيد الاجتماعي.
خلاصة القول في مسألة عملية التطهير هي ألا تحاول الصدام المجتمعي مع طائفة داخل المجتمع، حتى لا تصنع الحكومة مظلومية جديدة بجانب مظلومية الأكراد التاريخية التي لم تستطع حكومة العدالة والتنمية إنهاءها حتى اللحظة.
والمواجهة المباشرة داخل مؤسسات الدولة وبخاصة الأجهزة الأمنية هي فرض اللحظة الحالية، بما يخدم التجربة الديمقراطية وفي إطار إرساء القواعد الجديدة للجمهورية التركية، ومن يقف حجر عثرة أمام هذا التحول الضروري، لن يكون له ظهير شعبي أو مجتمعي للدفاع عنه، وهو ما حدث في لحظة محاولة الانقلاب، وحينها ستجري عليه سنة التاريخ.