عبر ما يقدر بنحو 35 ألف فنزويلي جسر “سيمون بوليفار” بحثا عن الطعام والدواء، بعد ساعات من التعب والألم في طرق سريعة تعاني من قطاع طرق.
والشيء الذي يثير الدهشة أن فنزويلا تعد من إحدى أغنى البلدان النفطية في العالم لاحتضانها أكبر احتياطي للنفط في العالم؛ ورغم كل هذا الثراء، تعيش البلاد أزمة خانقة على إيقاع مواجهات وأعمال نهب بسبب نقص المواد الغذائية.
وسجلت فنزويلا عام 2015 معدل تضخم بلغ 180.9%، هو من بين الأعلى عالمياً، وتراجع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 5.7% للعام الثاني على التوالي.
ومن المتوقع أن تتفاقم الأزمة في فنزويلا هذا العام، ورفع صندوق النقد الدولي توقعاته بانكماش الاقتصاد الفنزويلي بنسبة 10% هذا العام من توقعات سابقة بانكماش نسبته 8%، كما يتوقع ارتفاع التضخم إلى 700% من تقدير سابق عند 480%.
طوارىء اقتصادية
ونظرا لوضع البلاد، مدد الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو حالة “الطوارئ الاقتصادية”، التي دخلت حيز التنفيذ في منتصف يناير الماضي لمدة شهرين.
ونص المرسوم الرئاسي الذي وقعه مادورو الثلاثاء 12 يوليو الجاري، ونشر الأربعاء، على أن “حالة الاستثناء والطوارئ الاقتصادية ستمدد ستين يوما بسبب ظروف استثنائية تؤثر على الاقتصاد الوطني”.
وكان قد أصدر مادورو أول مرسوم في 14 يناير قضى بفرض حالة “طوارئ اقتصادية” تم تمديدها مرتين منذ ذلك الوقت.
وبرر الرئيس الفنزويلي هذا الإجراء بوجود “حرب اقتصادية” تشنها ضد فنزويلا شركات ومعارضون سياسيون.
وتمنح “الطوارئ الاقتصادية” الحكومة إمكانية مصادرة ممتلكات القطاع الخاص لضمان الحصول على السلع الأولية، وهو ما تعتبره المعارضة أنه يمهد الطريق لعمليات مصادرة جديدة.
وتشهد فنزويلا، التي كانت في السابق إحدى بلدان أمريكا الجنوبية الغنية المنتجة للنفط، نظرا لامتلاكها أحد أكبر الاحتياطيات في العالم، أزمة خطيرة مع انخفاض أسعار النفط الخام التي تؤمن 96% من عائداتها بالعملة الأجنبية.
لماذا انهارت فنزويلا؟
هناك أسباب كثيرة رصدها المحللون السياسيون والاقتصاديون، ساعدت على وصول فنزويلا للوضع الاقتصادي الراهن الذي يعاني منه الشعب.
فحكم البلاد نظام يساري بقيادة الحزب الاشتراكي الموحد منذ العام 2002 وقد ترأسه شخصان هما هوغو تشافيز مؤسس الحزب وصديقه نيكولاس مادورو رئيس فنزويلا الحالي.
وبعد 14 عاما كانت المحصلة في هذا البلد الذي يبلغ تعداد سكانه 31 مليوناً على الشكل التالي:
أولا: ارتفاع مستوى أسعار المستهلك (التضخم) الى 750% بنهاية يونيو الماضي.
ثانيا: الان انت تحتاج الى دفع ثلاثة صناديق مليئة بـ”البوليفار” وهي عملة فنزويلا لشراء سندويش نقانق.
ثالثا: هبوط في قيمة العملة الى الحد الذي باتت فيه الحكومة في سباق مع الزمن لطبع مزيد من النقود لمجاراة ارتفاع الأسعار لتسحب معها اقتصاد البلاد الى دوامة كبيرة من التضخم الجامح.
رابعا: حاليا لا تملك الحكومة الأموال الكافية لتغطية تكاليف طبع الاموال!
خامسا: شركة ديلارو أكبر شركة طباعة نقود في العالم أوقفت طبع العملات الفنزويلية لان البنك المركزي الفنزويلي فشل الشهر الماضي في سداد 81 مليون دولار مستحقات لها.
كما قامت حكومة فنزويلا بضخ كميات مهولة من النقود في النظام المالي في الخريف الماضي عن طريق صرف هبات ومعونات ومكافآت وزيادات في الرواتب لموظفي القطاع العام (2.5 مليون موظف)، وعمدت في المقابل الى خفض أسعار السلع الغذائية والوقود، وذلك لاستمالة الناخبين في الانتخابات الرئاسية التي جرت في ديسمبر 2015 وتم فيها إعادة انتخاب مادورو رئيسا لولاية ثانية.
وخلال الأسابيع الماضية اختفت من الاسواق تماما قطع غيار السيارات وأوراق الحمام ومعجون الاسنان والصابون والأسبرين وغالبية السلع الغذائية التي يفترض انها مدعومة.
وأصبحت تنفق الاسر هناك نحو 70% من دخلها لشراء الطعام، ويقول 87% من الفنزويليين انهم لا يملكون المال الكافي لتأمين الغذاء لعائلاتهم.
وتملك الحكومة متاجر لبيع السلع الغذائية، وبسبب شح السلع قررت فتح تلك المتاجر ليوم واحد فقط في الأسبوع ويكون دخول الأفراد اليها عن طريق نظام القرعة!
ونتيجة للأوضاع الحالية بفنزويلا، انتشرت الشهر الماضي ظاهرة “نصب كمائن لقوافل الغذاء قبل وصولها الى المتاجر الحكومية من قبل مواطنين، ما يعكس حالة اليأس الشديد.
مؤامرة غربية
مع ان فنزويلا بلدًا نفطيًا تملك أكبر احتياطي نفطي في العالم؛ إلا انها لا توفر الطاقة الكهربائية لشعبها، وأقرت الحكومة مطلع العام الجاري قانونا خفضت بموجبه أيام الدوام في القطاع العام من خمسة أيام الى يومين فقط في الأسبوع لترشيد استخدام الطاقة الكهربائية، في حين يتم توفير الكهرباء للمنازل 4 ساعات يوميا فقط.
وأنفقت الحكومة الفنزويلية وعلى مدى 14 عاما مليارات الدولارات على مشاريع إنتاج الكهرباء من المحطات الكهرومائية المقامة على السدود والشلالات، لكن عشرات الأنهار والشلالات جفت خلال السنوات الخمس الماضية بسبب موجة غير مسبوقة تضرب عموم اميركا الجنوبية، كما أهملت تطوير محطات الطاقة الحرارية (مع انها بلد نفطي).
سعر صرف العملة في السوق السوداء الدولار = 1000 بوليفار
وعام 2014 كان 70% من انتاج الطاقة الكهربائية في البلاد يأتي من محطة كهرومائية واحدة مقامة على سد بحيرة “غوري”، هذه البحيرة انخفض منسوبها حاليا بنسبة 83% وبدأت تظهر فيها الجزر الترابية!
حتى الان تبيع الحكومة البنزين بسعر مجاني تقريبا (لتر/ 0.1 بوليفار) وسعر صرف العملة في السوق السوداء حاليا هو الدولار = 1000 بوليفار!
قرابة 40 ٪ من طلاب المدارس منقطعون عن الدراسة بسبب سوء أوضاع اسرهم، ولان المعلمين والأساتذة لا يحضرون الى المدارس لانشغالهم بالوقوف في الطوابير للحصول على الطعام.
اما النظام الصحي فقد انهار تماما اذ يكفي ان يصاب الشخص بأبسط التهاب ليفقد حياته بسبب عدم توافر المضادات الحيوية.
ورغم كل ذلك يرفض الرئيس اليساري نيكولاس مادورو الدعوات بالتنحي ويعتزم إكمال فترته الرئاسية لغاية 2019، لا بل ويصرّ على أنّ بلاده تتعرض لمؤامرة غربية والى “حصار مالي”.
بلد النفط تترنح
تعتبر فنزويلا واحدة من الدول الست التي بمقدورها تزويد العالم بما يقرب من نصف احتياجاته من البترول بحلول العام 2020.
وتحتل فنزويلا منزلة متميزة داخل أوبك، فهي تمتلك من احتياطيات الزيت المؤكدة في نهاية 2001 نحو 78 مليار برميل، أو ما يعادل 7.4% من الاحتياطيات العالمية. وهي بذلك تحتل المرتبة السادسة بعد المملكة العربية السعودية والعراق والإمارات والكويت وإيران. وبالإضافة لذلك تمتلك فنزويلا احتياطيات هائلة من الزيت الفائق الكثافة وتقدر احتياطاته بنحو 270 مليار برميل وإن كانت اقتصادياته حاليا لا تسمح باستخلاص أكثر من 7% منها وبتكلفة مرتفعة.
ولذلك استقر الرأي داخل أوبك على استبعاد إنتاج الخام الفائق الكثافة من الحصة المعتمدة لفنزويلا. وفى العام 2001 بلغ إنتاج فنزويلا من الزيت الخام نحو 3.42 مليون برميل يوميا، وبذلك احتلت المرتبة الثالثة داخل أوبك بعد المملكة وإيران.
كذلك تأتي فنزويلا في المرتبة الثالثة في إطار الحصص التي اعتمدتها أوبك يوم 12 ديسمبر 2002 وتبلغ حصتها 2.65 مليون ب/ي بعد المملكة (7.4) وإيران (3.78)، وهو الاجتماع الذي عرض خلاله أعضاء المنظمة دعم الحكومة الفنزويلية بتزويدها -عند الطلب- بما تحتاجه من البترول نتيجة لانخفاض إنتاجها بسب انضمام عمال البترول إلى الإضراب العام الذي شل حركة الاقتصاد الفنزويلى وأدى إلى انخفاض إنتاج الزيت إلى نحو 400 ألف ب/ي.
ويبلغ الاستهلاك المحلي في فنزويلا عام 2001 نحو 490 ألف ب/ي، وإن كانت تمتلك من المصافي داخل وخارج فنزويلا ما يفيض كثيرا عن حاجتها المحلية حيث يوجه فائض المنتجات المكررة إلى أسواق التصدير.
وعلى مدى السنوات الخمس 1996-2000 بلغت صادرات فنزويلا البترولية نحو 3.35 مليون ب/ي في المتوسط موزعة بين 2.07 مليون ب/ي زيت خام و1.27 مليون ب/ي منتجات مكررة بنسبة 38% من إجمالي الصادرات.
ويتجه من تلك الصادرات إلى أسواق الولايات المتحدة، التي تعتبر أهم أسواقها، نحو 1.2 مليون ب/ي كمتوسط للسنوات الخمس موزعة بين 810 آلاف ب/ي زيت خام و380 ألف ب/ي منتجات مكررة، وذلك فضلا عن وجود شركة بترول فنزويلية يقع مقرها الرئيسي داخل الولايات المتحدة وهي شركة Citgo.
وإذ يتصف أغلب الزيت الفنزويلى بالكثافة العالية، فإن معظمه يكرر في المصافي الأميركية الواقعة في الخليج الأميركي الذي يبعد عن موانئ فنزويلا بمسافة تقطعها الناقلات في خمسة أيام، بينما تمتد تلك المدة إلى خمسة أسابيع بالنسبة للناقلات القادمة من الشرق الأوسط.
ومن هنا استطاعت فنزويلا مع المكسيك الاحتفاظ بمركز شبه احتكاري في تزويد منطقة الخليج الأميركي بالزيت الثقيل الذي يمثل الجانب الأكبر مما يكرر في مصافيها.
كذلك تقدر احتياطيات فنزويلا من الغاز الطبيعي بنحو 148 تريليون قدم مكعبة وهو ما يعادل 2.7% من الاحتياطيات العالمية للغاز أو 30% من احتياطيات النصف الغربي للكرة الأرضية.
ويبلغ إنتاجها من الغاز في الوقت الحاضر -وهو ما وعد الرئيس شافيز بمضاعفته- نحو 3.6 مليار قدم مكعبة، ويستخلص من الباقي نحو ألف ب/ي من سوائل الغاز الطبيعي NGL يجري تصديرها، ويستهلك الباقي.
ومع أهمية العائدات البترولية في اقتصاد فنزويلا إلا أنها نجحت في تنويع مصادر الدخل بحيث صارت تلك العوائد لا تمثل أكثر من 43% من إيرادات الحكومة خلال الفترة 1998-2000.
ولا تتجاوز عوائد البترول في فنزويلا 73% التي بلغ متوسط حصيلة صادراتها خلال الفترة 1998-2000 نحو 25.6 مليار دولار منها 18.8 مليار صادرات بترولية و6.8 مليار دولار صادرات غير بترولية.
وتعاني فنزويلا من ارتفاع كلفة إنتاج النفط إذ تصل نحو 8-9 دولارات للبرميل. ومن هنا كان سعى فنزويلا الدائم لمساندة أسعار البترول بحيث لا تنخفض إلى مستويات تهدد صافي عائداتها بعد خصم التكاليف، أخذا في الاعتبار أن مديونيتها الخارجية تبلغ نحو 35 مليار دولار يلزم لخدمتها نحو 5 مليارات دولار سنويا.
توريق وتهريب
الأزمة الاقتصادية على وجوه مواطني فنزويلا
كما دفعت الأزمة الاقتصادية في فنزويلا شركة النفط الوطنية للتوريق، و قال إيلجيو ديل بينو، رئيس شركة النفط الوطنية الفنزويلية، إن الشركة تتفاوض مع شركات الخدمات النفطية لتحويل الفواتير غير المدفوعة إلى أدوات نقدية، وهو العملية التى تعرف بالتوريق، دون الإفصاح عن حجم الطرح المحتمل.
ومعنى التوريق تحويل الأقساط الطويلة إلى سندات، ويتم الحصول على قيمتها فور إصدارها مما يمكن الشركات من مضاعفة حجم أعمالها دون انتظار مواعيد سداد الأقساط.
وحول الوضع الراهن في فنزويلا الأطباء والمعلمين إلى مهربين، مع انخفاض رواتبهم يوما بعد يوم، اتجه الفنزويليون إلى تهريب السلع النادرة كورق التواليت والقهوة والحليب والبيض، وبيعها بأسعار مرتفعة بالسوق السوداء.
هذا الوضع تترجمه حركة العملة المحلية في السوق السوداء، حيث تراجع البوليفار بشدة أمام الدولار إلى قرابة 1125 أمام الدولار، بالمقارنة مع 258 العام الماضي.
في المقابل، تكلف كرتونة البيض حوالي 150 دولارا، أي ألف مرة أكثر من غالون النفط، الذي يباع ببضعة سنتات للولايات المتحدة بسبب ضوابط الأسعار الحكومية.
وتبقى الإشارة إلى أن النقص في بعض السلع مثل ورق التواليت والصابون دفع بعض الفنادق إلى مطالبة النزلاء بإحضار حاجاتهم الخاصة منها.
وبالرغم أن فنزويلا اصطلاحًا تعد سادس أغنى دولة نفط في العالم؛ إلا أنها فشلت في منافسة الدول التي تسبقها في الترتيب (دول الخليج وإيران) لتحسين أوضاعها الاقتصادية، فانهار اقتصادها مجرد ترنح أسعار النفط الذي جعل شعبها يلامس خطر الفقر، وذلك ألزمهم لعبور الحدود بحثًا عن الطعام والغذاء.