من جديد عادت الأيادي الغربية للعبث بليبيا، ضمن محاولات التقسيم القائمة على قدم وساق، لكن هذه المرة تأتي المحاولة من المبعوث الدولي إلى ليبيا مارتن كوبلر، الذي اقترح – بناء على اتفاق الصخيرات – فكرة تشكيل ثلاثة جيوش في ليبيا، تحت قيادة واحدة ، قبل أن يعود ليعدلها بإمكانية تشكيل جيش ليبي موحد، تحت قيادة المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني، لحفظ الأمن بالبلاد، على أن يتشكل هذا الجيش من ثلاث قوات مسلحة ليبية بثلاث قيادات في الشرق والغرب والجنوب، متجاهلا الواقع القائم بالفعل – وإن اختلف عليه المحللون – بوجود قوات مسلحة ليبية في غرب البلاد، ومركزها قاعدة الوطية، وهي تتبع مباشرة القوات المسلحة الليبية في المنطقة الشرقية، وقائدها العام خليفة حفتر، فيما تتواجد قوات أخرى في الجنوب تحت إمرة محمد بن نايل، وهو لواء مشاة معزز بالكامل يتبع في قيادته حفتر كقائد عام، ما يعني أن الفكرة قد تسهم في تأجيج صراعات القوى بالداخل، وتدخل البلاد في حرب أهلية طاحنة.
مستودع الأسلحة
كوبلر في فكرته النظرية البعيدة عن الواقع يؤكد أن ليبيا لا يمكن لها أن تستوعب وجود عدة جيوش، وهو ما يتناقض كلياً مع تصريحات سابقة له تقضي بلامركزية الجيش الليبي كمخرج من الجدل السياسي المتواصل، حول شرعية حكومة الوفاق الوطني، وهو حديث يهدد خريطة الطريق الأممية، وينسف المكاسب العسكرية التي تحققت مؤخراً على حساب تنظيم “داعش” الإرهابي في بنغازي، وسِرت على وجه الخصوص، لكنه لم يحدد كيف للقوات الجديدة أن تتعاطى مع حقيقة القوات القائمة بالفعل على الأرض، لكن تصريحه الخفي بأن المجتمع الدولي جاهز للتعاطي مع الموقف، يزيد من الشك في مردود هذا الاقتراح الذي يعني تمويل القوة الجديد المزمع تشكيلها، وبالتالي سيتركز صراعها مع قوات حفتر بعيدا تماما عن جدلية محاربة داعش والفصائل الإرهابية المسلحة المهيمنة على مناطق هدة بالبلاد، ناهيك عن أن تشكيل جيش وطني ليبي قوي وموحد، أمر يحتاج إلى وقت طويل جدا، خاصة وأن ليبيا لم يكن فيها جيش حقيقي حتى في زمن القذافي، بل كانت فيها مستودعات كبيرة للسلاح.
حقل سياسي ملغم
قد يبدو للمراقبين أن المبعوث الدولي إلى ليبيا الدبلوماسي الألماني مارتن كوبلر، مُنسِّقا ومركزا وهو يسير في الحقل السياسي الليبي “المُلغّم” بمكونات سياسية متخاصمة، لكنه في الوقت نفسه يحمل أجندة مخيفة، يتحصن بها خلف حكومة الوفاق الوطني المؤيدة من مجلس الأمن الدولي، والاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية، والتي لم ينجح التصويت الداخلي على قبولها حتى الآن.
تسريبات التقسيم
ما يدعم تلك التصورات هو توازيها مع توقعات استخبارية لا تستبعد اختفاء ليبيا بشكلها الحالي، حيث تحدثت تقارير غربية وأمريكية خاصة عن احتمال كبير لتقسيم ليبيا إلى ثلاثة كيانات على الأقل، وهو سيناريو بدأ الترويج له مباشرة بعد الإطاحة بنظام معمر القذافي، وتؤكده التطورات الدراماتيكية التي تشهدها المنطقة العربية حاليا، والتي لا تستبعد أي شيء من نوايا التقسيم، ومثالي سوريا والعراق جاهزين لمن يريد الاسترشاد بهما.
خطر التقسيم إذا عاد ليلوح مجدداً في سماء ليبيا، وكأن الشعب الليبي لم يكفه ما عاناه من قهر وضياع وإرهاب، وبالتالي لابد من توحيد المؤسسة العسكرية، باعتبارها صمام الأمان في الدولة وحاميتها، وهذه المؤسسة يفترض ألّا تعرف القسمة أبداً، خصوصا وأن الانقسامات والشروخ الموجودة الآن في ليبيا، عميقة جدا، فالصراعات السياسية، وغياب الدولة، وبحث البعض عن النفوذ، أجَّجَ الصراعات الداخلية، ومشاعر الكراهية والبغض تجاه الآخرين، وفي حال استمرار الوضع الراهن والمواجهة بين الفرقاء ستنقسم ليبيا، ما قد يؤدي إلى صراعات طائلة لن تهدأ في المرحلة المقبلة، كما أن الجماعات الإرهابية على رأسها “داعش” ستسعى للتوسع والتنامي، مستغلًّة فرصة الانشقاقات بين الحكومات المتصارعة على حكم البلاد، وكذلك الصراع على أحقية الجيش الذي يواجه هذه التنظيمات.
ملامح الانقسام جاهزة
وعليه فإن أطرافا ثلاثة رئيسية يجب أن تجتمع مع بعضها لتجاوز الأزمة، وهي مجلس النواب والحكومة المنبثقة عنه، والقيادة العامة للجيش والمجلس الرئاسي، فبدون هذه الأطراف الثلاثة لا يمكن أن يكون هناك أي حل، لا سيما وأن الجهات الثلاث تتنافس، ليس فقط على الشرعية السياسية في البلاد، بل وعلى الأحقية في مقاتلة “داعش” وهو ما ينذر بتقسيم ليبيا الى دويلات، مع الوضع في الاعتبار استمرار حالة الانقسام الداخلي وتوابعه من انهيار الخدمات، وانهيار العملة المحلية وانتشار الجريمة بدرجة مفزعة.
تنازلات قاسية
الخلاصة أن مصير ليبيا بالدرجة الأولى الآن مرهون بمواقف أبنائها، وقواها السياسية والاجتماعية والعسكرية، ومدى قدرتها على التعامل العقلاني مع أزماتها، وتقديم التنازلات الضرورية و”القاسية” معا، بعيدا عن التقسيمات والمسميات القبلية سواء قبيلة القذاذفة، التي ينتمي إليها القذافي وخصّها بالمال والنفوذ والسلاح، وأعدادها محدودة ولا تتجاوز 200 ألف نسمة، وتتمركز في مدينتي سرت على الساحل وسبها وسط الصحراء، وقبيلة الورفلة التي تضم 52 فرعا، ويتجاوز عدد أفرادها مليون نسمة، ومركزها في بني وليد بالقرب من العاصمة طرابلس، وقبيلة المقارحة، وهي أكثر القبائل الليبية تسليحا ونفوذا في عهد القذافي، وإن كانت قليلة العدد، وقبيلة ترهونة التي تشكل ثلثي سكان طرابلس (7,1 مليون نسمة)، وتتمركز في منطقة ترهونة في الجنوب الغربي لطرابلس، وقبيلة مصراتة، وهي من أكبر القبائل الليبية مشاركة في الثورة وتتمركز في مدينة مصراتة في غرب ليبيا، وقبيلة البربر، وهم يمثلون 3 بالمئة من سكان ليبيا، ويتمركزون في الجبل الغربي أو جبل نفوسة (جنوب طرابلس) ، وقبيلة الطوارق والتبو وأعدادهم قليلة جدا ويقدرون بالآلاف، وأهم المدن التي يقطنون بها أوباري وغات، على الحدود الجزائرية، وقبيلة الزنتان، التي انخرط شبابها منذ البداية في الثورة الليبية في الجهة الغربية، وقبيلة العبيدات شرق ليبيا التي ينتمي إليها عبد الفتاح يونس، قائد المجلس العسكري للثوار ووزير الداخلية السابق والذي تمت تصفيته داخليا، وتضم أيضا آخر وزير للخارجية في عهد القذافي عبدالعاطي العبيدي، وقبائل الشرق: مثل البراعصة والمسامير والعواقير والتي تتمركز في شرق ليبيا، خاصة في مناطق بنغازي والجبل الأخضر.