ترجمة وتحرير نون بوست
تطبيع العلاقات بين تركيا وروسيا أواخر الشهر الماضي كان مفاجئاً للأتراك. الهجمات الإرهابية التي يشنها عناصر حزب العمال الكردستاني وتنظيم داعش، التدفق المستمر للاجئين السوريين، تصاعد المشاكل الاقتصادية بسبب العقوبات الروسية، تأزم المشاورات مع الاتحاد الأوروبي والاحتكاك مع الولايات المتحدة كل هذه الأسباب دفعت أردوغان وبلاده لإنهاء الحرب الباردة مع روسيا لأنها لم تعد قادرة على تحمل هذه المشاكل.
اعتذار تركيا عن اسقاط المقاتلة التركية مهد الطريق لاستئناف العلاقة الاقتصادية والتعاون الأمني بين البلدين. لكن هذا لن يخفف النفوذ الروسي في الحديقة الخلفية لتركيا حيث ان النفوذ الروسي في منطقة البحر الأسود والقوقاز والشرق الاوسط يشهد نموا متصاعدا على حساب النفوذ التركي مما أدى الى تضاؤل الشراكة الاستراتيجية بين البلدين التي بدأت منذ عشرة اعوام تقريبا.
النمو المتزايد للنفوذ الروسي على حساب تركيا سيحد من التوصل إلى شراكة حقيقية بين البلدين في المستقبل. محاولة الانقلاب الفاشلة خلقت فرصاً جديدة لرفع مستوى التعاون بين البلدين على المدى القصير. لأن تركيا تشهد توترا في علاقتها مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مما يدفعها للقبول برغبات روسيا. هذا الامر يحد وصول تركيا وروسيا لشراكة حقيقية على المدى البعيد ليس لأي شيء وانما لان الشراكة غير متكافئة بينهما.
شهد العقد الأول من هذا القرن شراكة متنامية بين تركيا وروسيا التي انقلبت في الآونة الأخيرة رأسا على عقب. تلاقت الطموحات الاستراتيجية بين البلدين عند نقطة السعي نحو الحصول على دور أكبر في النظام العالمي وشعرا بالإحباط معاً لما يعتبرونه رفض الغرب توفير مقعد لهما على الطاولة. كلا البلدين يعطيان النمو الاقتصادي أولوية في سياستهما الخارجية وبدأت انقرة وموسكو بالتركيز على التعاون الاقتصادي وتعميق العلاقات التجارية والاستثمارية بين البلدين. بحلول 2015 أصبحت روسيا ثالث أكبر شريك تجاري لتركيا ورابع أكبر مصدر للاستثمارات الأجنبية والمورد الرئيسي للغاز الطبيعي الى تركيا. وأصبحت المنتجعات التركية تعج بالسياح الروس.
قرار روسيا فرض عقوبات اقتصادية على تركيا بعد إسقاط الأخيرة لمقاتلة روسية في نوفمبر 2015 إثر بشكل كبير على الاقتصاد التركي. وقد ركزت روسيا على الركائز الأساسية للعلاقات الاقتصادية بين البلدين: الزراعة والبناء والسياحة. كما تم توقيف شركات البناء العاملة في تركيا وإيقاف رحلات الطيران وإلغاء اتفاق إلغاء التأشيرة بين البلدين التي تم توقيعها في 2010. كما علقت شركة غاز بروم العمل في مشروع خط انابيب الطاقة في البحر الأسود وكذلك شركة روس اتوم المملوكة للدولة الروسية علقت العمل في المفاعل النووي في اك كوي التركية. ووفقاً لتقارير البنك الأوروبي للإنشاء والتعمير فإن العقوبات الروسية قلصت من الناتج المحلي التركي بنسبة تصل الى 0.7%. في 2016.
تضرر البلدين على حد سواء من الازمة التي حدثت بينهما بسبب تعارض سياساتهما في سوريا. حيث وقفت روسيا بجانب إيران وحزب الله لمساندة نظام الأسد الذي تقف ضده تركيا مع عدد من دول الخليج العربي التي دعمت فصائل المعارضة السنية للإطاحة بنظام الأسد. بعد اندلاع الحرب في سوريا بفترة قصيرة صعّدت موسكو من إجراءاتها ضد المصالح التركية في سوريا باستخدام سلاحها الجوي لضرب قوات المعارضة السورية المدعومة من تركيا. وهذا بدوره دفع الكثير من السوريين للجوء الى تركيا التي تستضيف أكثر من ثلاثة ملايين لاجئ سوري.
في نفس الوقت قدمت روسيا الدعم لقوات حزب الاتحاد الديموقراطي الذراع المسلح لحزب العمال الكردستاني في سوريا. مما أثار حفيظة تركيا التي ترى بأن حزب الاتحاد الديموقراطي امتداد لحزب العمال الكردستاني الذي خاض معارك ضاية مع الجيش التركي جنوب شرق تركيا العام الماضي. علاوة على ذلك سمحت روسيا لحزب الاتحاد الديموقراطي الذي اقتطع لنفسه دويلة شمال سوريا بفتح مكتب له في موسكو كما قامت المقاتلات الروسية بتمهيد الطريق امام الاكراد السوريين للاستيلاء على مناطق إضافية.
في وضع كهذا من الطبيعي ان يكون مفاجئا تحرك أردوغان لاستعادة العلاقات مع روسيا. في ظل تزايد هجمات داعش على بلاده وفشل استراتيجية تركيا لإنهاء الحرب الاهلية في سوريا، والعزلة الدولية، وتفاقم الصراع مع حزب العمال الكردستاني. كما ان التكلفة الاقتصادية الاستراتيجية للصدام مع روسيا اقنعت الحكومة التركية بأنها غير قادرة على الاستمرار في هذا الصدام. اعتذار تركيا يمهد لتغيير مطلبها بتنحي الأسد في مقابل انهاء العقوبات الروسية وتراجع روسيا عن دعم حزب الاتحاد الديموقراطي. إذا نجحت هذه المناورة فسوف تتمكن تركيا من التركيز على مواجهة حزب العمال الكردستاني وتنظيم داعش.
في الأسابيع الأخيرة ألغت روسيا الحظر المفروض على الرحلات الجوية الى تركيا وأذنت بمحادثات تهدف الى استئناف العلاقات الاقتصادية العادية. وفي 28 يونيو عقب التفجير الانتحاري الذي نفذته داعش في مطار اسطنبول الدولي اجتمع وزراء الخارجية الروسي والتركي في سوتشي واتفقا على استئناف التعاون العسكري في مجال الاتصالات والتعاون لمكافحة الإرهاب.
الشراكة الاستراتيجية بين تركيا وروسيا تجذرت في أواخر التسعينيات من القرن الماضي قبل وصول أردوغان الى الحكم لكنها ترسخت وازدهرت بعد تولي حزب العدالة والتنمية للسلطة في 2003. أردوغان وبوتين يتقاسمون بعض الصفات الشخصية كما ان شعورهما المشترك بالإحباط من النظام العالمي الذي يسيطر عليه الغربيون دفع بإنشاء استراتيجية مشتركة بينهما. كما تجمع البلدين بعض المصالح الاقتصادية كتمرير خطوط النفط عبر تركيا إلى أوروبا وغيرها.
انهيار الاتحاد السوفيتي فتح المجال امام تركيا في البحر الأسود والقوقاز والشرق الأوسط مما سمح لها ممارسة سياسية خارجية أكثر طموحا والقيام بدور أكبر في الشرق الأوسط.
لكن في السنوات الأخيرة تحسن الجيش الروسي الى حد كبير نتيجة لبرنامج الدفاع الذي دشنته روسيا في 2014. حيث عززت روسيا وجودها العسكري حول تركيا في حوض البحر الأسود ومنطقة القوقاز وأيضاً إرسال بارجة بحرية الى شرق البحر المتوسط. كما نقلت روسيا معدات إضافية الى قاعدتها البحرية في مدينة طرسوس السورية. وابرمت صفقات أخرى مع نظام الأسد لإنشاء قواعد أخرى في مناطق متفرقة في سوريا.
الحشد الروسي جعلت النفوذ التركي عرضة للأطماع الروسية وقد تباينت المصالح الاستراتيجية بين تركيا وروسيا في أوكرانيا كما ان تجدد النزاع بين أرمينيا وأذربيجان أدى الى حدة التنافس بين انقرة وموسكو.
الانقلاب الفاشل في تركيا قد يخفف نوعا ما من حدة هذا التوتر على المدى القصير، لأن موسكو مستعدة في النظر بطريقة مختلفة للتخلص من أردوغان خلافاً للولايات المتحدة وحلفائها في حلف شمال الأطلسي. في الواقع ان روسيا استفادت كثيرا من ابتعاد تركيا عن الغرب لتكون أقرب إليها.
تداعيات الانقلاب ستؤدي الى مشاكل امنية نسبيا في تركيا. انشغال أردوغان بالجيش وإبعاد معارضيه المتحالفين مع الغرب سيجعله اقل قدرة على مقاومة التوسع الروسي وهذا الوضع سيسمح لموسكو ان تواصل نفوذها في محيط تركيا، في المقابل ليس امام تركيا سوى القبول بشراكة غير متكافئة.
المصدر: فورين أفيرز