المحاولة الانقلابية ومستقبل السياسة الخارجية التركية

تأتي محاولة الانقلاب العسكري الأخيرة في تركيا تتويجًا لمجموعة من الانقلابات العسكرية التي حدثت في تاريخ الدولة التركية الحديثة بداية من انقلاب 1960 إلى انقلاب 1971 ثم انقلاب 1980 وأخيرًا انقلاب 1997، وهذا يعني أن الانقلابات العسكرية في تركيا هي ظاهرة اعتيادية بغض النظر عن حجم الآثار المترتبة على كل انقلاب عسكري، لكن ما هو استثنائي هذه المرة هو فشل الانقلاب العسكري مقارنة بنجاح كل الانقلابات العسكرية السابقة، بالإضافة إلى تداخل العوامل الداخلية والخارجية المحيطة بهذه المحاولة الانقلابية، ولذا فإن لفهم هذا الحدث وتداعياته المستقبلية لا بد أن تراعى معطيات البيئة الداخلية للدولة التركية وكذلك خصائص السياق الدولي المحيط بها.
أولاً: ما أسباب فشل الانقلاب؟
من الناحية المبدئية فإن فشل الانقلاب العسكري في تركيا يعكس مدى الصعوبة التي وجدها قطاع مهم من المؤسسة العسكرية في إعادة إحياء تدخل هذه المؤسسة في الحياة الاجتماعية والسياسية التركية، وهذا يبرره التحولات المهمة التي أحدثها رجب طيب أوردغان في السياسة التركية خلال فترة حكمه والتي لامست جزئيتين مهمتين أما الأولى فهي تحويل الثقافة السياسية في تركيا من ثقافة سياسية رعوية إلى ثقافة سياسية تشاركية حسب التصنيف الذي قدمه غابريال الموند، وأحد المعالم الأساسية للمقارنة بين الثقافتين هي تلك المتعلقة بعامل التمايز الوظيفي للأدوار بين الفواعل والمؤسسات، حيث يتيح اكتساب خصائص الثقافة السياسية التشاركية التزام مؤسسات الدولة بالأدوار والوظائف المنوطة بها دستوريًا، ولذا فإن معارضة قطاع مهم من المؤسسة العسكرية للانقلاب يعكس القناعة بالتمايز الوظيفي للمؤسسة العسكرية في قضايا الدفاع والأمن القومي.
أما التحول الثاني الذي أحدثه أوردغان فيتعلق بتطوير مستوى التنمية الاقتصادية بالشكل الذي يحول دون توفير السياق المناسب للمؤسسة العسكرية لممارسة الوصاية على المجتمع وذلك وفقًا لنموذج الحكم العسكري الذي قدمه هنتنغتون، والذي يرى أن لحظات الانهيار الاقتصادي تؤدي بالضرورة إلى زيادة مستوى عدم الانضباط الاجتماعي وهو ما يوفر السياق المناسب للمؤسسة العسكرية للتدخل في الحياة الاجتماعية لإدارة حالة عدم الانضباط، وإذ يفاجئنا الواقع بالحقائق الاقتصادية المذهلة التي حققها أوردغان على المستوى الاقتصادي والتي يستحيل معها تبرير الوصاية الاجتماعية للمؤسسة العسكرية.
ما أردت أن أقوله إن فشل الانقلاب في تركيا لا يفسر بشكل تقني على أساس عدم النجاح في التخطيط لهذا الانقلاب، ولكنه يعكس اصطدام الانقلاب بالحقائق السياسية الجديدة والتي أفرزها حكم أوردغان في تركيا، إلى درجة اقتناع الجميع بما فيها قوى المعارضة أن الممارسة السياسية في هذا السياق وأن موقع المعارضة فيها من الضمانات لممارسة سياسية حقيقية أكبر بكثير من إعادة إنتاج نموذج للحكم العسكري، أو تجسيد الانتكاسة في الثقافة السياسية التركية نحو ثقافة سياسية رعوية، وهذا السياق لم يسبق لأنظمة الحكم المتعاقبة في تركيا أن تمكنت من بنائه وهو ما يفسر نجاح الانقلابات العسكرية السابقة وفشله هذه المرة.
ثانيًا: العامل الخارجي والمحاولة الانقلابية
وإذا كانت معطيات البيئة الداخلية للدولة التركية هي التي أثرت على فشل المحاولة الانقلابية فهذا لا يعني أن السياق المحيط بهذا الحدث يرتبط بشكل حصري بالمحددات الداخلية، إذ إن الكثير من معطيات البيئة الخارجية كانت تشجع على حدوث هذا الانقلاب ومن ذلك بشكل أساسي إدارة تركيا لعلاقاتها مع القوى الكبرى، فمن المعروف أنه لا يمكن لأي دولة أن تحقق استقلالية معقولة في سياستها الخارجية إلا إذا ارتقت مكانتها لمصاف القوى الكبرى، أما ما دون ذلك من الدول فهي مجبرة على مراعاة تأثيرات العوامل الخارجية في سياستها وخاصة ما يتعلق بسياسات القوى الكبرى، والدولة التركية ليست استثناءً من هذا الطرح وما يعزز هذه الإشكالية بالنسبة إلى تركيا هو موقعها الجغرافي الذي يقع في أحد الفضاءات الأساسية لاحتكاك سياسات القوى الكبرى وخاصة ما يتعلق بالتنافس الروسي الأمريكي.
وكان الأمر سيكون أبسط لو كانت طبيعة النسق الدولي أقرب إلى الأحادية القطبية، أما وإن هذا النسق أصبح يقترب أكثر من أي وقت سابق من الطابع التعددي فهذا يفرض على الدولة التركية التفكير في تجسيد الارتهان المتوازن في علاقاته مع كل من الولايات المتحدة وروسيا وكل منهما يفرض على تركيا مجموعة من الرهانات.
بالنسبة لروسيا مثلاً هناك ثلاثة خطوط حمراء لا يجب للسياسة الخارجية التركية أن تتجاوزها: أما الأول فهو ألا تكون تركيا هي خط الأمامي للتوجهات الهجومية التي يمارسها حلف الناتو في السنوات الأخيرة تجاه روسيا، والثاني ألا تفكر تركيا في تعزيز نفوذها أكثر من اللازم في النظام الإقليمي لآسيا الوسطى والذي يعتبر دائرة نفوذ تقليدية لروسيا، والثالث ألا تستعدي تركيا حلفاء روسيا التقلييدين في منطقة الشرق الأوسط أي إيران وسوريا.
أما بالنسبة للولايات المتحدة فهي تراهن على تركيا في إنجاح الكثير من سياسات حلف الناتو الموجهة ضد روسيا، بالإضافة إلى ضرورة أن تقوم تركيا بدور الدولة الحاجز تجاه المشكلات الأمنية القادمة إلى أوروبا من منطقة الشرق الأوسط، حيث يعتبر الاتحاد الأوروبي حليفًا تقليديًا رئيسيًا للولايات المتحدة، كما أن الموقع الجغرافي لتركيا يعتبر محددًا مهمًا لنجاح الاستراتجية العسكرية الأمريكية تجاه التنظيمات المتطرفة في منطقة الشرق الأوسط.
الواضح من هذا العرض أن كل من روسيا والولايات المتحدة – ومن خلفهما دول الاتحاد الأوروبي – تفرضان رهانات وقيودًا على السياسة الخارجية التركية، بحيث إن أي إدارة سيئة للدولة التركية لعلاقتها مع هذه القوى سينعكس على وضع الدولة التركية في حد ذاتها، إذ من الممكن ملاحظة الربط بين ازدياد عدد العمليات الإرهابية في تركيا وبين تأزم العلاقات الروسية – التركية، ومن الممكن كذلك ملاحظة الربط بين إعادة تصحيح تركيا لعلاقتها مع روسيا وبين حدوث المحاولة الانقلابية، فالأطراف الداخلية التي تتهمها تركيا بتدبير الانقلاب إما محسوبين على ما يسمى اللوبي الأمريكي داخل الجيش التركي، وإما محسوبين على حركة فتح الله غولن المقيم في الولايات المتحدة.
ثالثًا: عن مستقبل السياسة الخارجية التركية
وهذا يثبت أن تركيا مجبرة على إقامة توازن في علاقاتها مع القوى الكبرى، وأحد التداعيات المباشرة هي تعديل تركيا لموقفها من النزاع السوري والذي يجعله يتطابق مع خطة السلام من أجل سوريا – الصادرة في ديسمبر 2015 – وهي الخطة الأمريكية لتسوية هذا النزاع والتي تلقى بشكل عام قبولاً روسيًا، وذلك على اعتبار أن هذه الخطة تتضمن ثلاثة أشياء تعتبر مضادة للموقف التركي، أولها بقاء نظام بشار الأسد، وثانيها إقامة منطقة أمنية مستقلة للتواجد الكردي، وثالثها انسحاب قوى المعارضة المسلحة السورية المدعومة تركيًا من بعض المناطق الجغرافية التي تسيطر عليها.
وعلى هذا الأساس فإن هناك مساران مستقبليان يمكن توقعهما للسياسة الخارجية التركية، فإما من جهة أن تتبنى سياسة خارجية أكثر تطرفًا مع العمل على تعزيز تماسك البيئة الداخلية، وإما تعديل توجهاتها الخارجية حفاظًا على أي تداعيات سلبية على البيئة الداخلية، ومن وجهة نظري فإن المسار الثاني هو الأقرب إلى إمكانية الحدوث وذلك ارتباطًا بثلاث محددات:
أولاً: النسق العقيدي لرجب طيب أوردغان والذي يتسم بنوع من المرونة، فهو قد قام في وقت سابق بمراجعة حتى قناعته الفكرية المرتبطة بالحركة الإسلامية التركية فما بالك بالمواقف والتوجهات السياسية.
ثانيًا: إن الإصرار على تطهير البيئة الداخلية يعزز من النزعة التسلطية لنظام حزب العدالة والتنمية وهو ما يخلق بالضرورة ردود فعل داخلية.
ثالثًا: صانع القرار أدرك أن العامل الخارجي يستطيع فعلاً التأثير بشكل مباشر على الوضع الداخلي التركي بوسائل وآليات متعددة.
وحتى وإن كان الاهتمام الرئيسي لصانع القرار التركي في المرحلة الراهنة هو إعادة ترتيب البيئة الداخلية وذلك يشمل كل المؤسسات الحيوية للدولة، فهذا يعتبر تمهيدًا ضروريًا لإعادة مراجعة تركيا لسياستها الخارجية في مرحلة لاحقة، ومن المظاهر المتوقع تكرسها في السياسة الخارجية التركية مستقبلا فيمكن رصد ما يلي:
– أن تحرص تركيا على عدم دفع ثمن التنافس الاستراتيجي بين الولايات المتحدة وروسيا، ولذلك من المتوقع أن تندمج تركيا أكثر في سياسة الدفاع والأمن الأوروبي كتعويض عن التحلل التدريجي من سياسات حلف الشمال الأطلسي، الذي يتبنى سياسات هجومية تدرجية تجاه روسيا ، وذلك على اعتبار أن تركيا لا تستطيع التحلل بشكل كامل ومفاجئ في علاقاتها مع الدول الغربية.
– أن تعدل تركيا موقفها من القضايا الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط وتحديدًا النزاع السوري بالشكل الذي يتقاطع مع خطة السلام من أجل سوريا والتي بدأت تلقى قبولاً دوليًا لتسوية هذا النزاع، مع التعديل في بعض تفاصيلها كأن تطلب تركيا التواجد العسكري المباشر في المنطقة الأمنية المستقلة للتواجد الكردي بدل التواجد العسكري الأمريكي كما هو مطروح في الخطة.
– أن تعيد تركيا تقييم علاقاتها مع القوى الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط بحيث تقيم علاقات أكثر توازنًا مع القوى الإقليمية الرئيسية وتحديدًا السعودية وإيران.