منذ أن وقع انقلاب تركيا واستطاع الشعب مع قيادته الواعية ومعارضته الشريفة وقوات شرطته المحافظة على القانون وبعض قوات الجيش التي لم تستجب لإغراء السلطة كسر هذه الموجة الانقلابية، بدأ موسم المقارنات بين الرئيس أردوغان والدكتور مرسي، بين رئيس الوزراء بن علي يلدريم والدكتور هشام قنديل، بين تصرف قيادات وأعضاء حزب العدالة والتنمية وبين تصرفات قيادات وأعضاء جماعة الإخوان المسلمين، بين المعارضة التركية والمصرية، مقارنات أجدها غير منطقية من باب علم السياسة المقارن وهو فرع من فروع العلوم السياسية.
فالدكتور عبدالعالي عبدالقادر في محاضراته عن النظم السياسية المقارنة يضع شروطًا للمقارنة السياسية، من هذه الشروط ألا تكون الفوارق بين الحالات موضع المقارنة شديدة التباعد من حيث الإطار الزمني والمكاني والسياقي، فلا تقارن بين سنتين من الحرية نعمت بهما مصر منذ ثورة يناير 2011 وحتى انقلاب 2013 وبين أكثر من نصف قرن من الحرية والديمقراطية والانتخابات النزيهة، اللهم إلا سنين قليلة خلال فترة الانقلابات العسكرية مُنعت فيها الحرية ولكن لم تزور فيها الانتخابات.
أول انتخابات تركية كانت عام 1946 في عهد عصمت إينونو وريث مؤسس الجمهورية التركية الحديثة، ومنذ ذلك الحين لم تزور الانتخابات، لتأتي بعدها انتخابات 1950 ويفوز الحزب الديمقراطي بقيادة عدنان مندريس برئاسة الوزراء، ويبدأ معها الشد والجذب بين العسكر والمدنيين، ورغم ذلك لم تزور الانتخابات، أما مصر لم تعرف انتخابات نزيهة منذ أكثر من نصف قرن، فآخر انتخابات نزيهة شهدتها مصر كانت في يناير 1950 التي فاز بها حزب الوفد، وكون مصطفى النحاس حكومة الوفد الرابعة والأخيرة، بعدها بسنتين شهدت مصر ثورة جلبت لها – للآسف – تزوير الانتخابات والديكتاتورية وحكم الفرد.
فالمقارنة مجحفة ولكن لا مانع من أخذ الدروس والعبر، والاستفادة من التجربة التركية منذ بدايتها مع عدنان مندريس، وحتى قدرة أردوغان وحزبه على إفشال الانقلاب العسكري، لكن في وسط كل هذا تقابل نوعية من البشر أدمنت الكيل بمكيالين.
يقول لك أحدهم: “لا تقارن الدكتور مرسي بأردوغان، فالدكتور مرسي لم يحكم سوى عام ولم يكن يملك قوة مسلحة تعينه، أما أردوغان فيحكم منذ 14 عامًا، استطاع خلالها اختراق الدولة العميقة والأجهزة الأمنية، لا تقارن حزب الحرية والعدالة الوليد بحزب العدالة والتنمية والذي له خبرات سابقة منذ أسس أربكان حزب النظام الوطني عام 1970″، كل هذا جيد، لكن ترى هذا الشخص يقارن الشعب المصري بالشعب التركي، يمدح الأتراك ويُعلي من شأنهم، ويلصق كل نقيصة وخطأ بالمصريين.
عضو مجلس شوري سابق من الإخوان يعتبر نجاح الانقلاب في مصر بسبب العبيد الذين أيدوا السيسي، بينما فشل الانقلاب في تركيا لأنه ليس لديهم عبيد، وكأن سبب نجاح انقلاب مصر تأييد مجموعة من الشعب له فقط، ولم يكن بسبب أخطاء فادحة للقيادة السياسية في هذه المرحلة، وكان هذا المتكلم عضوًا في مجلس الشوري فترة حكم الدكتور مرسي.
وآخر يكيل السب للشعب المصري عبيد البيادة الذين أيدوا السيسي، والذين سكتوا عليه حتى الآن حتى ولو كانوا كارهين، ففي مصر شعب تعود على الظلم والقهر واستطابه، وفي تركيا شعب حر أبيٌ لا يرضى الذل والهوان، وآخر يقول “فشل الانقلاب في تركيا ونجح في مصر لأن الأتراك لم يكن لديهم من يحمل البيادة فوق رأسه ويرقص بها.
كم من الحماقات وأحيانًا البذاءات طفحت بها أفواه بعض السياسيين المنتمين للإخوان الذين شاركوا في مرحلة الدكتور مرسي، يضعون كل الخطأ على الشعب المصري، وهم كانوا على أكمل وجه وقاموا بالعمل المطلوب منهم! رغم أنهم في الحقيقة جزء أساسي وسبب رئيسي فيما نعيشه هذه الأيام.
مما لا شك فيه أنني أقدر ما فعله الأتراك وأحترم هذا الإنجاز الذي حققوه شعبًا ومعارضة وقيادة، تجربة تستحق الدراسة والاستفادة منها ومن كل فصولها، ونتمنى لهم التوفيق في قادم الأيام، لكن هؤلاء الذين أغرقونا ثم جاءوا يرمون الخطأ على الشعب أعتقد أنه لا احترام لهم ولا مكانة، من يهين شعبه بهذه الطريقة ويستخف به ليس أهلاً أن يكون منه، فضلاً عن أن يمثله سياسيًا في أي محفل كان.
المقارنة بين الشعب التركي والشعب المصري فيها كثير من الإجحاف بحق الشعب المصري، الذي عانى ويلات القهر والديكتاتورية منذ عهد ثورة يوليو وحتى قيام ثورة يناير 2011، لم يعرف انتخابات نزيهة ولا ديمقراطية منذ أواخر عهد الملكية، مستوى تعليم مضمحل وتخريب ثقافي وعلمي، وتجهيل متعمد وتسطيح لكل الأشياء، فقر وعوز شديد، لا أقول لك منذ فجر التاريخ ولكن على الأقل منذ تولي محمد علي وأولاده السلطة، وهيمنتهم على أملاك المصريين الفقراء، فالشعوب تتعلم بالخبرات والتجارب والخطأ والصواب، فالشعب المصري كانت تجربته مدتها قصيرة جدًا، فمن الطبيعي أن تحدث هكذا أخطاء، والديمقراطية تملك الوسائل التي تصلح بها أخطاءها عند استمرارها.
ولكن عندما دُعي هذا الشعب لبى النداء، عندما أحس أن هناك أمل، وأن من الممكن التغيير لم يتأخر، وشهد العالم ثورة حكي عنها القاصي والداني، وشهد بروعتها الجميع، ثورة يناير 2011، سطر الشعب المصري بكل أطيافه وشرائحه ملحمة عظيمة، أضاعها ساسته بعد ذلك، فكل المظاهر التي ترونها في مقاومة الأتراك للانقلاب صنعنا مثلها من قبل، ولكن ساسة مصر بسذاجتهم وجهلهم وغبائهم أضاعوا فرصة كبيرة لإصلاح حال الوطن والمواطن.
تتعجبون من إلقاء مواطن تركي نفسه أمام دبابة وقد فعلها المصريون بعد موقعة الجمل عندما أراد الجيش أن يحرك دبابته لداخل ميدان التحرير، ويحاصر الثوار داخل منتصف الميدان، سبقنا الأتراك في التصوير بجوار الدبابات، سبقنا الأتراك في النوم في الميادين والاعتصام بها، سبقنا الأتراك في إقامة الأعراس والزفاف في الميادين، قاوم الثوار الشرطة بأيديهم العارية، ولو اشتبك الجيش معهم في هذا اليوم لما ترددوا في الوقوف في وجهه، كل ما عليك أن تبحث عن صور وفيديوهات ثورة يناير على الإنترنت.
وما حدث في محمد محمود وأحداث مجلس الوزراء وماسبيرو والعباسية، حوادث تشهد على تضحية هذا الشعب بكل طوائفه، فأحداث ما بعد الثورة شهدت مشاركة من شباب دخلوا عالم السياسة بسببها وضحوا من أجلها، في أحداث محمد محمود الأولى تحرك فيها شباب بدون توجه سياسي غيرة على فض اعتصام مصابي الثورة في ميدان التحرير، وتلقوا الرصاص بصدورهم العارية، وفقئت عيون بعضهم، وهم لا مؤدلجين ولا ينتمون لتيار سياسي ما.
ولما نذهب بعيدًا وأحداث رابعة 2013 ليست بعيدة، لا تنظر للميدان فقط ولكن انظر للانتفاضة التي حدثت بعيدًا عن الميدان، في محافظات مصر جميعها، عدد الشهداء الذين سقطوا أمام مراكز الشرطة وكثير منهم ليسوا إخوانًا، وإنما خرجوا غضبًا لمشروع ظنوا أنه قد يكون طوق النجاة لبلادهم.
هذا الشعب بذل وضحى ثم بعد ذلك مورست عليه حرب إعلامية ونفسية مركزة ومخططة باحتراف شديد، وهو شعب حديث عهد بالديمقراطية، هذه السياسات لو مورست على شعب بنفس الطريقة لأخرجت نفس النتيجة، انظروا لانقلابات أمريكا الجنوبية وما حدث بها، نفس السياسات ونفس النتيجة، والحقيقة التي لا يريد أن يعترف بها بعضهم أن فترة إدارة الإخوان في مجلس الشعب والشورى والرئاسة أصابها كثير من العور والخطأ وكانت مدعاة لما حدث، بل يجب أن يُسأل هؤلاء الناقمون على الشعب المصري: ماذا فعلتم أنتم لتخرجوه من المذمات التي تلصقوها به؟
الشعب المصري ككل شعوب العالم لا هو أعظم شعب ولا هو أسوأ شعب، فكل شعب لديه مساوئه وحسناته، وعلى قادته الواعين أن يعملوا على إعلاء الحسنات، وتقويم المساوئ، لا أن يعايروه بما فيه، والأغرب أن تأتي المعايرة من أهل الخطأ والزلل، بل وممن أوصلوا هذا الشعب للكفر بالديمقراطية والحرية والركون إلى الاستقرار المزعوم، فتشوا عن خطاياكم يا سادة، ولا تجعلوا الشعب شماعة لخطايكم وسوء إدارتكم، ومن الأفضل لأمثالكم أن يغلقوا باب المقارنات مع الحالة التركية، ويراجعوا أنفسهم عما جنته أيديهم.